إعداد ماهر ريشة
هل من علاقة بين لغة الجسد التي يتقنها الفرد عادة بشكل فطري وغريزي وبمستويات مختلفة بحكم تواصله اليومي المباشر مع الآخرين، وبين لغة الإشارة التي تخصّ فئة محددة من المجتمع، وتحتاج إلى تعليم خاصّ كي يتقنها الفرد ويتواصل بها مع الآخرين؟ مَا هي اللغة التي تخدم الأخرى؟ هل لغة الجسد حليف مهمّ للغة الإشارة بحيث تزيد من فاعليتها، أم أنّ لغةَ الإشارة سيدةُ نفسها ولا تحتاج لأيّ تحالف أو مساعدة أو تدخّل من لغة أخرى؟ هل لغة الإشارة اختزالية ولغة الجسد تفصيلية؟ وإذا كانت لغة الجسد عند البعض هي لغة الحقيقة التي يصعب تزويرها أو تمويهها، وإذا كانت – بنظر البعض أيضاً – أصل اللغة وبداياتها عند الإنسان الأول قبل أن يملك القدرة على التحكم بجهازه الصوتي المعقّد، فهل لغة الإشارة “فرع” منها تمّ استحداثُه لاحقاً؟ أم أنّ لغة الإشارة هي الأصل، وتفرّعت عنها كل اللغات لاحقاً، بما فيها لغة الجسد والعيون والشّفاه واللغة المحكية والمكتوبة والمنطوقة والمهموسة وغيرها؟ وإذا كان ذلك هو الواقع، فما هي تسمية أوّل لغة بدائية للبشرية قبل ظهور وتمييز الإعاقة السمعية واللفظية؟ وإذا ابتدأت البشرية بلغة واحدة أيّاً كانت تسميتها، فلماذا تفرّعت عنها – بعد ذلك – آلافُ اللغاتِ واللهجات التي يقدّر اللغويون وأصحاب الاختصاص أنّها تزيد عن (7000) لغة متداولة في مختلف دول العالم؟
إنّ المتخصّصَ في لغة الجسد وفهم دلالاتها وإشاراتها، يدقّق النظر في معظم أجزاء جسم المتكلّم، ليرصد ما وراء لغته المنطوقة، وليفسّر ما كان غامضاً منها، أو ليكتشف الحالة الانفعالية التي رافقت كلماته، أما الذي يريد فهم لغة الإشارة، فهو يركّز بالعادة على جُزأيْن فقط من الجسم هما الشفتان، واليدان بأصابعهما التي تتشكّل بأنماط مختلفة وبسرعة متناسقة مع حركة الشفتين، فهل يكفي هذان الجُزءان لفهم الدلالات غير المباشرة للكلمة، أو ما تُخفيه من معانٍ مُبطّنة أو مُبهمة أو سرية؟ ما الفرق إذن بين لغة العيون ولغة الشّفاه؟ هل لغة العيون تعبيرية، ولغة الشّفاه تقريرية؟ وإذا كانت العديد من الدراسات والأبحاث تشير إلى أنّ ما لا يقلّ عن (55%) من طرق التواصل بين الناس تعتمد على لغة الجسد، فهل يمكن توظيف هذه النسبة في لغة الإشارة حتى تصبح أكثر تعبيراً وأسرع فهماً وأدقّ توصيلاً وأوسع انتشاراً؟
وعلى الرغم من أنّ المقدرة على قراءة عقول الناس وأفكارهم دون أن يُعلِنوا هُم عنها صعبة إلى درجة كبيرة، فإن قراءة لغة أجسادهم ليست بهذه الصعوبة، إذ يقول علماء النفس إنهم استطاعوا فكَّ معظم أسرار لغة الجسد التي تجعل من فهم الأشخاص وما يُسرّون وما يعلنون أمراً ممكناً، بغضّ النظر عما يقولونه شفاهة. إذن، هل يمكن اعتبار لغة الجسد بديلاً للغة الإشارة (الصامتة) إذا جاز التعبير، واعتبار لغة الإشارة (التقليدية) هي اللغة (المحكيّة)؟ أي إذا كان مُهمّاً ما نقول، فإنّ الأهم كيف نقوله؟ وما هي أفضل الطرق للتواصل بين البشر، طالما أنّ اللغة ليست أداة للتعبير، بقدر ما هي وسيلة للاتصال؟
هل يُمكن المُقارنة والمُقاربة بين هاتين اللغتين؟
إنّ المقدمة السابقة تمنحنا إمكانية اكتشاف عدد من عناصر التشابه والاختلاف بينهما كما يلي:
النظام والقواعد: إنّ كلا النظامين له قواعد وأُسس محدّدة، حيث إن قواعد لغة الجسد فردية وغير صارمة، وهناك بعض القواعد والمبادئ التي تحكم استخدام حركات الجسم وتعابير الوجه، مثل الحركات البسيطة التي تعبر عن المشاعر الأساسية مثل السعادة أو الحزن، أما في لغة الإشارة، فهناك قواعد دقيقة وعامة لكل ثقافة محلية، تحكم تكوين الإشارات وترتيبها لتشكيل الكلمات والجمل.
استخدام اليدين: في لغة الجسد، يمكن استخدام اليدين بشكل غير مباشر للتعبير والتواصل، وأحياناً لا حاجة لاستخدامهما طالما أن العيون وملامح الوجه قادرة على عكس الحالة الانفعالية والشعورية لصاحبها، أما في لغة الإشارة، فإن اليدين تلعبان دورًا أساسيًا في نقل الرسائل وتشكيل الحروف والكلمات.
الخلفية الثقافية: كلا النظامين له جوانب ثقافية مرتبطة به، ففي لغة الجسد، قد لا تختلف كثيراً الإشارات والحركات التي يعبّر عنها الأشخاص عادة وفقاً للثقافة السائدة والعادات المحلية، فهي لغة مشاعر، أما في لغة الإشارة، فلكل دولة ومجتمع محلي لغة خاصة به ومختلفة عن البلدان والمجتمعات الأخرى، ولها قواعدها الخاصة النابعة من طبيعة الثقافة المحلية.
الوظيفة الأساسية: لغة الجسد هي طريقة التواصل غير اللفظي التي يستخدمها الأشخاص في التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم من خلال حركات الجسم وتعابير الوجه ولغة العيون وغيرها، أيّاً كانت خلفياتهم العلمية أو أوضاعهم الصحية أو مستوياتهم المعيشية أو اختلافاتهم الطبقية، أما لغة الإشارة فهي نظام تواصل مرئي يُستخدم للتواصل وتبادل المعلومات باستخدام حركات اليدين والأصابع والفم.
فهمُ كلّ لغة للأُخرى: يستطيع كل إنسان فهم لغة الجسد لإنسان آخر بشكل مباشر وغير مباشر، دون الحاجة لعلم مسبق أو دراسة قبلية أو تدرّجٍ في المستوى التعليمي، كما أنّ صاحب لغة الإشارة يستطيع أن يفهم لغة الجسد أيضاً، غير أنّ العكس صعب لدرجة كبيرة، فليست لغة الجسد قادرة على فهم لغة الإشارة إلا في أضيق الحدود، إذا لم يتمّ تعلّمها مسبقاً.
لغة الجسد عالمية، ولغة الإشارة محلية: تتشابه معظم دلالات لغة الجسد ومعانيها عالمياً، مع بعض الفوارق التي تفرضها الثقافة السائدة، أما لغة الإشارة فهي مختلفة بين دولة وأخرى، وبين مجتمع وآخر، حتى بين أسرة وأخرى في نفس المجتمع المحلي.
الترجمة: لا تحتاج لغة الجسد إلى مُترجِم خاص، لينقل مشاعر وأحاسيس وانفعالات شخص ما إلى شخص آخر، فهي لغة مقروءة تلقائياً وإنسانياً، أما لغة الإشارة فهي تحتاج لمترجم مُختصّ يُحوّل الكلمات المنطوقة إلى رموز وإشارات متفق عليها مسبقاً، حتى يفهمها المتلقّي الذي هو عضوٌ في فئة مجتمعية ذات خصوصية معيّنة مرتبطة بطبيعة الإعاقة.
خاتمة: ما زال العلمُ حائراً بين سؤال يبدو أزليّاً أو شبه أزلي: هل اللغة اكتشاف الصدفة أم اختراع الضرورة؟ وفي مقالنا هذا، يظلّ السؤال قائماً: هل يجب أن تكون هناك علاقة بين لغة الجسد ولغة الإشارة وما نوعها أو شكلها؟ هل هي علاقة مصلحة ومنفعة متبادلة، أم علاقة يفرضها التداخل الإنساني بينهما؟ وكيف يمكن توظيف كلّ منهما لخدمة الآخر؟ وهل من الضروري ذلك؟ إنها أسئلة مفتوحة وبحاجة لمزيد من البحث.
ماهر الريشة
مدرّب ومحاضِر في قضايا الإعاقة والطفولة والخدمة الاجتماعية
نابلس ، فلسطين