فضيحة قناة BBC في حق المرضى والمعاقين من الأطفال
نشعر بالأمان عندما نضع أطفالنا بين أيدي من سيعتنون بهم ضمن مؤسسات صحية أو تعليمية، لأننا نتوقع منهم إلتزاماً مهنياً وأخلاقياً تجاه أبنائنا الذين لا حول لهم ولا قوة خصوصاً أثناء غيابنا، لكن إلى أي حد يمكننا أن نثق بهؤلاء، وهل هناك من وسيلة لمراقبة العاملين في مؤسسات لصيقة التعامل مع الأطفال وتقييم سلوكياتهم لحماية الصغار والمرضى من المنحرفين، أسئلة في غاية الأهمية طفت على السطح مؤخراً بعد اكتشافنا أن أحد نجوم قناة BBC ممن كرسوا أنفسهم للأعمال الخيرية والتطوعية مع الأطفال المرضى والمعاقين، مارس الشذوذ الجنسي والإعتداء على الأطفال من خلال ما منح له من صلاحيات خولته الاقتراب منهم، خصوصاً وأن صورة النجم في عيني طفل هي أكبر من الثقة ذاتها، فماذا يحصل عندما يخذل الطفل من قبل من كان يشكل في نظره قيمة عليا ومثالاً يحتذى.
حدث في غاية الخطورة سيطر على الإعلام البريطاني في الأسابيع القليلة الماضية، لكن رغم أهميته لم تغطه وسائل الإعلام العربية وقنواتها الإخبارية، الموضوع يتعلق بعدد كبير من الأطفال ممن تضرروا من شخصية اعتبارية، إعلامي شاذ السلوك قام على مدى عشرات السنوات بالتحرش جنسياً بالأطفال بمن فيهم المرضى والمقعدون ممن لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم أو الهرب من قبضته، لأنه نجم محفوف بهالة من التقدير المفبرك.
ونتيجة لذلك وجدت نفسي مضطرة للخوض في هذا الموضوع ليتسنى لنا نبش إشكالية سكوت المجتمع عن شذوذ البعض وعدم التجرؤ على رفع الشكاوى عليهم لأنهم نجوم محبوبون أو لأنهم شخصيات معروفة من خلال تطوعهم للأعمال الخيرية كشخصية «جيمي سافيل» الإعلامي المقرب من العائلة المالكة البريطانية. حيث خشي المُعتدى عليهم أن يتقدموا بالشكوى لأنهم علموا مسبقاً أنهم لن يجدوا من يصدق رواياتهم، فهل نصنع بجهلنا وتأليهنا لنجوم التلفزيون درعاً يختبىء خلفه الشاذون نفسياً وأخلاقياً.
النجم البريطاني المذكور هو «جيمي سافيل» الذي توفي العام الماضي 2011، وخلال حياته مثّل بريطانيا في الأعمال الخيرية المتعلقة بالأطفال المرضى حول العالم، وقد كان الناس يرون فيه أسطورة دون أن يعرفوا شخصيته الحقيقية المنحرفة، رغم أن التحقيقات كشفت معرفة عدد من الإعلاميين وأفراد عائلته بقذارته، وهناك غيره من الشخصيات المهمة ذات الميول المنحرفة ممن يمنحون الثقة إلى درجة تمكينهم من الاقتراب من الأطفال والإساءة إليهم جسدياً ونفسياً.
بدأ سافيل مشواره الفني بإدارة وتنظيم الحفلات الموسيقية في الستينات، وظهر على التلفزيون في برامج المنوعات والترفيه مثل برنامج Swinging Sixties حيث كان مظهره ملفتاً للنظر، فقد كان يصبغ شعره دائماَ باللون الأشقر، ويرتدي ملابس ملونة وخواتم عديدة ومجوهرات أخرى مثل السلاسل والأساور، كما كان معروفاً بالسيجار الكبير الذي يظهر عاضّاً عليه في غالبية صوره.
انطلقت بداياته من محطة راديو لوكسمبرج عام 1958 وانتقل بعدها للـ BBC وبدأ بلعب دور مقدم أشهر برنامج سباق للأغنيات Top of the Pops وقدم الحلقة الأولى عام 1964 والحلقة الأخيرة من البرنامج عام 2006.
لكن أشهر برامجه على الإطلاق كان برنامجاً نسخت فكرته بعض الفضائيات العربية وهو برنامج Jim’ll Fix It حيث يتلقى رسائل من الأطفال ويحقق لهم أمنياتهم والتي قد تتضمن اللقاء بشخصية فنية أو الطيران، أو شراء حاسوب، ومن خلال هذا البرنامج كان يلتقي بالأطفال الذين كانوا يرون فيه أسطورة لتحقيق أحلامهم.
لكن شهرته الأكبر ذاعت من خلال اهتماماته بالأعمال الخيرية وجمع التبرعات للمستشفيات من خلال المشاركة بسباق الماراثون والتطوع في مستشفيات منها مستشفى ليدز العام، ومستشفى ستوك مانديفيل المتخصص بوحدة معالجة إصابات العمود الفقري، ومستشفى برودمور النفسي الذي يتمتع بحراسة على مستوى عال حيث تتم فيه معالجة أعتى المجرمين من القتلة المرضى نفسياً، إلى درجة أن هذه المستشفيات خصصت له غرفة خاصة في كل منها ليقيم فيها، ونتيجة لثقتهم العمياء بشخصه منحوه مفاتيح خاصة لدخول أماكن محظورة من المشفى.
كان سافيل على الشاشة يبدو شخصية مرحة جداً وغريب الأطوار أحيانا، لكن بعيداً عنها كانت له شخصية مغايرة تماماً، خلق شخصية اجتماعية بناها لنفسه ليبدو محترماً بما يليق وعمله تحت غطاء التطوع لصالح الأعمال الخيرية ليضمن وصوله إلى الأطفال والمراهقين دون أن يشك به أحد، وعندما مات عام2011 عن عمر يناهز 84 عاماً أقيمت له مراسم جنازة تليق ببطل قومي، ولكن فضحت شخصيته مؤخراً عندما تم بث فيلم وثائقي عن حياته على قناة بريطانية، كشفت جانباً خفياً من شخصيته، إذ قام باستغلال الفتيات الصغيرات جنسياً والإساءة لهن على مدى عشرات السنوات دون أن يفضحه أحد، وبعد عرض التقرير تشجعت ضحاياه وبدأن بالإتصال لتقديم شهاداتهن على دناءته وصفاقته حينما استغلهن وهن صغيرات ومريضات.
قال الإعلامي ديفيد إيكا: «لقد أخبرني البعض عن حقيقة جيمي سافيل في أواخر التسعينيات وقالوا حينها أن سافيل كان صديقاً مقرباً من الأمير فيليب زوج الملكة، إلى أن تراجعت صداقتهما بعد خلاف كبير جرى بينهما، وكان سافيل يتفاخر بعلاقته بالعائلة المالكة وكان من المعروف لدى الجميع بأنه من المترددين في زيارات على قصر باكنغهام وقصر كينزنغتون حيث عاشت الأميرة ديانا بعد انتهاء زواجها من الأمير تشارلز، كما كان يتردد على هاي غروف وهي عزبة ريفية للأمير تشارلز، وأخبروني عن هوسه الجنسي بالأطفال، وهوسه بالنيكروفيليا (حب مجامعة الموتى)، وأن محاولاته القيام بالأعمال الخيرية المتعلقة بالمستشفيات وفرت له غطاء مناسباً ليقوم بذلك حيث يستطيع دخول المشرحة وغرف الموتى» ليمارس أعماله المشينة دون أن يلاحظه أحد.
تقوم الشرطة البريطانية حالياً بالتحقيق بـ 320 حالة متعلقة بالإساءات الجنسية التي قام بها نجم قناة BBC ضد أطفال على امتداد 60 عاماً. والتوقعات تشير إلى أن هناك المزيد من الحالات التي سوف تطفو على السطح كلما توسع التحقيق، وهناك ادعاءات بأنه قدم خدمات كوسيط لشخصيات من الطبقة المخملية ومن الأثرياء بتوفير أطفال لهم لأغراض الإعتداء الجنسي.
منذ أيام قليلة صرح للإعلام أحد أبناء شقيقة سافيل، واسمه غاي مارسدن، وعمره الآن 59 عاماً، بأن خاله كان يأخذه هو وأصدقاءه وهو مراهق إلى حفلات خاصة في أواخر سنوات الستينات ليعملوا كوسطاء بين البالغين المنحرفين وبين الأطفال المستغلين، وقال إن تلك الحفلات حضرتها شخصيات مهمة جداً ونجوم من عالم السينما والفنون، لكنهم جميعاً كانوا رجالاً، ولم تحضر النساء تلك الحفلات أبداً.
مارسدن كان في الثالثة عشر من العمر عندما فرّ هو وبعض أصدقائه المراهقين من بيوتهم في مدينة ليدز في شمال انجلترا متوجهين إلى لندن بحثاً عن المغامرة، وقال إن رجالاً احتكوا بهم في محطة قطار يوستن ودعوهم للإقامة معهم في شقة قذرة فذهبوا معهم، وبعد أربعة أيام وبالصدفة البحتة حضر للشقة خاله النجم جيمي سافيل، بعدها اكتشف المراهق أن خاله، الإعلامي الشهير يختلط برجال متخصصين بالإعتداءات الجنسية على الأطفال وهو صديق مقرّب منهم.
ورغم أنه أخبر خاله بأنه سيتعرض للمشاكل مع أبويه لأنه ترك المنزل دون أن يخبرهم عن وجهته، بدلاً من أن يعيده للمنزل، أخذه هو وأصدقاءه إلى ما وصفه بأنه (مكان أفضل بكثير). كان هذا المكان منزل أحد نجوم الغناء حيث لديه بركة سباحة داخلية وكان منزله مسرحاً لحفلات الاعتداءات الجنسية على الأطفال.
حزب العمال البريطاني طالب الحكومة بالقيام بتحقيق مستقل حول الاتهامات المتعلقة باستغلال الأطفال جنسياً من قبل سافيل. لكن وزيرة الثقافة، ماريا ميللر، نفت أن تكون هناك مطالبات بالقيام بتحقيق مستقل وقالت بأنها «متأكدة» بأن المدراء في قناة BBC حيث كان يعمل سافيل سوف يأخذون هذه الادعاءات «على محمل الجد». لكن رئيس حزب العمال «إيد ميلليباند» قال بأن قيام BBC بتحقيق داخلي هو أمر غير كاف. وقال أثناء حديثه لبرنامج «الأجندة» الذي تبثه قناة ITV1: « إن هذه الاتهامات مروعة، ومن أجل القيام بما يلزم للضحايا، لا أظن بأن BBC تستطيع بأن تقود التحقيق حول نفسها بنفسها، وقال: «نريد نظرة شاملة على كل المؤسسات المتورطة، الـ BBC، والخدمات الطبية، ومستشفى برودمور. لذلك يجب القيام بهذا التحقيق من قبل لجنة مستقلة».
طالب حزب العمال بتحقيق مستقل ليكون للجهة المحققة القوة القانونية لمطالبة الجهات المتورطة بتقديم مستندات واستدعاء الشهود، والتحقيق بنشاطات جيمي سافيل داخا قنوات BBC. وقال ميلليباند: «يبدو أن نشاطه استمر من خلال عدة مؤسسات. وكما قلت، يجب أن نفكر في الضحايا، إن ما حدث مروع، قام بتشويه نفسيات الضحايا مدى الحياة».
لقد كان الإعلام يصف جيمي سافيل بـ «فاعل الخير»، وتم تكريمه مراراً على جهوده الإنسانية حتى أنه حصل على لقب «سير» من الملكة عام 1971 ومنح وسام الإمبراطورية البريطانية ولقب الفروسية عام 1990.
لكن بعد وفاته واتضاح أنه أساء جنسياً لفتيات صغيرات عديدات وهو في قمة نجاحه الفني في الستينات والسبعينات، وضعت الشرطة اسمه ضمن لائحة «جناة الجنس الافتراسيين» وتعالت الأصوات بالمطالبة بتجريده من ألقاب التكريم التي منحته إياها الملكة.
في أكتوبر من عام 2012 بدأت شرطة الميتروبوليتان بتقييم الاتهامات الموجهة ضده وفتحت له ملف تحقيق مشترك مع الجمعية الوطنية لمكافحة العنف ضد الأطفال يتضمن الشكاوى ضده على مدى 40 عاماً في المستشفيات التي تبرع بالعمل فيها، وفي كل مكان عمل فيه بما في ذلك قناة الـ BBC.
من ضمن من تقدم بشكوى ضد نجم التلفزيون جيمي سافيل، شخص عمره الآن 45 عاماً، كان ضمن فريق الكشافة وهو طفل، أساء له جيمي سافيل وهو ما زال في التاسعة من العمر واسمه كيفين كوك.
قال كيفين بأن جيمي سافيل استدرجه إلى غرفة صغيره رثة لتغيير الملابس في قناة بي بي سي عام 1976 قبل تسجيل حلقة «جيمي ويل فيكس إت» أي جيمي سوف يتدبر الأمر، وهو البرنامج الذي كان يقدمه لتحقيق أمنيات الأطفال من خلال الرسائل التي كانوا يرسلون بها إليه، قال إنه أجلسه على كرسي وسط الغرفة، ووعده بمنحه ميدالية توزع في البرنامج عليها اسم البرنامج لو تصرف كما يجب.
وقال كيفين إن سافيل سأله في غرفة تغيير الملابس إن كان مستعداً لربح الميدالية وإن كان يستحقها، وضع يده على ركبة الصبي وأدخل أصابعه من خلال البنطال القصير الذي كان يرتديه الصبي ثم فتح سحاب بنطال الولد وبدأ بمداعبة جسد الصبي جنسياً، ثم طلب النجم التلفزيوني من الطفل بأن يلمس أعضاءه التناسلية من خلال البنطلون. بعدها هدده بأن لا يخبر أحداً وقال له إن تكلم أو باح بالسر فلن يصدقه أحد ولن تكون كلمته أكثر مصداقية من كلمة «الملك جيمي» كما وصف نفسه، وحذره مهدداً «لا تخبر أحداً ولا حتى أصدقاءك، فنحن نعرف أين تسكن».
كيفين كوك كان حينها أحد الأطفال الذين ظهروا على البرنامج من خلال رحلة مدرسية نظمت للفرقة 44 من نادي كشافة نيوهام ايست، طمع كأي طفل في الحصول على الميدالية ليتباهى بها بين أصدقائه.
قال كيفين كوك في التحقيق «قبل أن أذهب لعرض برنامج جيمي سافيل، كان بالنسبة لي شيئاً كبيراً وكأنه إله. وكنت منفعلاً جداً لأنني سأراه. لكنني بعد أن قابلته شعرت بالغضب والمرارة لأنني لم أستطع أن أبوح لأحد وأنه مات الآن ولن يسجن على أفعاله».
لقد تم اختيار 8 أطفال من أصل 30 أو 40 من فريق الكشافة حينها ليحظوا بشرف لقائه في استوديوهات بي بي سي. وتم اختياري لأنني اشتريت له ربطة عنق بمساعدة والدتي.
حتى بنات شقيقته لم يسلمن من أذاه، قالت كارولين روبنسون بأنه تحرش بها مرتين وأن جدتها وأمها كانتا تعلمان كل شيء لكنهما كانتا تحميان سمعته لأنه قدم لهما الهدايا الثمينة ومنها منزل للجدة. وفي مقابلة تلفزيونية مع طالبة في مدرسة دنكروفت سابقاً في مقاطعة ساري اسمها روتشيل شيبرد. قالت إن عمتها مارجريت والتي كانت مديرة المدرسة حينها، كانت على علم بشذوذ سافيل وأنها كانت تدعوه إلى المدرسة.
لا أريد وصف ما قرأته من شهادات ضحاياه من المعاقات حركياً والمريضات. لكن من الضروري بمكان الانتباه لعدم اختلاء أي كان مع الأطفال مرضى أو غير ذلك بغض النظر عن مكانة الضيف، وذلك لحماية هؤلاء الضعفاء. هذه القصة المرعبة بتفاصيلها المشينة هي إثبات آخر على أنه لا يجوز ائتمان أي كان على الأطفال وبعيداً عن الرقابة. إذ لا يمكن الثقة بأحد مهما كانت سمعته أو ثروته أو عطاؤه الخيري.