تبدو الأقدار والظروف هي التي تحيك سيناريو الحياة وهي بمشيئة الله قبل هذا وبعده، فنحن نخطط ونحلم ونشقى ونأمل ونتعب، لكن تظل هي خطى.. ومن كُتبت عليه خطى مشاها. وهناك من يخلق الحواجز والعراقيل في طريقه إما لسوء تقدير غير صحيح أو قصور في الفهم أو صراع نفسي مع ذاته تتجاذبه هموم الحياة فيتوه مشتت الذهن غير قادر على اتخاذ القرار الصحيح، وهناك من يكون ذا نظرة واقعية ثاقبة تفاؤلية وهذا يساعده في النجاح وبلوغ مرامه.
الحياة طريق طويل كم نمر من خلاله بمنعرجات مؤلمة تقودنا إلى حيث لا ندري.. قد نركن في بعض مواقفه ونتفكر فيما حل بنا على أن ليس كل ذلك الطريق وعر بل كم عبرنا من خلاله إلى حيث الأمل وتحقيق مرامينا وكل منا ينتظر متى تقف تلك العربة عن السير وأين تحل بنا لكن ما دامت النفس تنبض بالحياة فحتماً الإنسان يشقى ويلهث خلف آماله وشغف عيشه وينتظر متى يتحقق طموحه الذي يحلم به ليل نهار وقد يتحقق فيسعد به وقد يخيب رجاؤه فيعيش محبطاً ولكن الإنسان الناجح هو من يصارع في الحياة حتى آخر رمق.
أذكر قبل أكثر من عشر سنوات ولي أمر الطفلين المعاقين إعاقة عقلية وحركية مع اضطراب في النطق الذي كان يساوره الخوف والشك وقد يكون الرفض المطلق بأن يبتعد ابناه عن ناظريه وقد يكون خوفه عليهما من البيئة التي سوف يعيشان فيها وكيف لهما أن يتأقلما مع حالتيهما ويعتمدا على نفسيهما ويكونا ناجحين في حياتهما بل الأهم لديه كيف يعتمدا على ذاتيهما دون حاجة للآخرين..!
عرض لي رجل مهتم حالة هذين الطفلين وأراد لهما الخير فطلبت منه أن يطلب من والدهما احضارهما إلى المدرسة لإجراء الفحص وتقييم حالتيهما ولكن الوالد رفض وأبدى رغبته في مساعدة بسيطة لهما أو بالأصح توجيه منا بكيفية مساعدته على أن يتولى رعايتهما في المنزل فقط…
لم نقبل بهذا الأمر.. ولكن بسبب حرصنا على الطفلين تم الوقوف على حالتهما وتشخيصهما في المنزل وأقنعنا الأب بإمكانية أن يلحقا ببرنامج التربية الفكرية حيث تقدم لهم الخدمات التربوية وخاصة في جانب العناية بالذات والاعتماد على النفس وتدريبهما على السير وعلاج حالة العجز الحركي وكذلك علاج عيوب النطق لديهما… إلا أن الأمر كان بالنسبة لولي الأمر صعب التحقيق.. وفي آخر المطاف تم إقناع ولي الأمر فقبل بالأمر الواقع وبدأ المعلمون اهتمامهم بالطالبين اللذين كانا على درجة كبيرة من الأدب والسلوك القويم حتى أن الشخص يشك في حالتهما الذهنية.
وها هنا الآن ولأكثر من عقد من الزمان من ذلك اليوم أتت فكرة كتابة هذا المقال حينما تشرفت بحضور تكريم الطلاب المتفوقين في المنطقة شرفه أمير المنطقة وكان طلاب التربية الخاصة من ضمن الطلاب المكرمين وكان عددهم قرابة العشرين طالباً. لفت انتباهي مرور طالبين كبيرين في السن قد أنهيا المرحلة الثانوية للتربية الفكرية يصطحبهما والدهما إلى حيث استلام جائزتيهما وبعد الحفل أسرعت فسلمت عليهما وعلى والدهما وذكرته بما قد كان وقلت له: الآن أدركت قيمة حرصك وخوفك على ابنيك وقدمت له التهنئة بأبنائه بان أصبحا يمشيان ويعتمدان على قواهما دون مساعدة من الآخرين، وهما مندمجانِ في الحياة الاجتماعية بل الأهم إنهما أصبحا معتمدين على ذاتيهما، تبسم ابتسامة ملؤها الرضا والسعادة ودعا للمخلصين العاملين في التربية الخاصة جهودهما مع ابنيه وأنه يشعر بسعادة لو وزعت على ملايين البشر ستكفيهم.
هذا يقودني إلى تذكير أولياء أمور الأطفال المعاقين عقليا أو مزدوجي الإعاقة بأن الزمن كفيل بأن يغيروا وجهة نظرهم ويكونوا أكثر تفاؤلا، ويعلم الله كم كنت أزرع في ذواتهم الأمل بمستقبل سيكونون فيه راضين تمام الرضا عن حالات أبنائهم لسبب أن هذه الفئة تنمو مهاراتها ومعارفها بشكل بطيء ليس كأقرانهم من غير المعاقين وهي قادرة على التحسن والتطور والاعتماد على نفسها بل والنجاح في حياتها متى توفرت البيئة الملائمة وبتضافر كافة الجهود من الأسرة والمدرسة والمجتمع كل يقوم بدوره المناط به تجاه هذه الفئة.
لذا على العاملين في التربية الخاصة أن يعوا أهمية الإرشاد الأسري ويعطوه اهتمامهم من خلال التوعية والتثقيف بالإعاقة وكيفية التعامل مع الابن في مرحلة مبكرة وفي كافة الجوانب وإعطاء الرؤية المستقبلية التفاؤلية للطفل كل حسب حالته حتى نحقق الأمان النفسي للطفل المعاق وأسرته .