لن تبدو هذه العبارة غريبةً على صناع قراراتنا ومن بيدهم أمرنا لأنهم من أجيال عاصرت وواكبت الاستماع إلى إذاعة البرنامج العام وصوت العرب من القاهرة،
ومن المؤكد أنهم استمعوا إلى عمالقة فرقة ثلاثي أضواء المسرح في إسكيتش «شالوا ألدو وجابوا شاهين، ألدو قال منتوش لاعبين»، و«ألدو» و«شاهين» هما حارسا مرمى نادي الزمالك في حقبة الخمسينيات والستينيات، وقد جاء هذا الإسكيتش لثلاثي أضواء المسرح ليصف حال أزمة كرة القدم في ذلك الزمن الجميل،
ثم أصبح هذا الإسكيتش مثلاً يُضرب على سياسة المراوغة والالتفاف في التغيير والإصلاح المزعومين، تلك السياسة القديمة الجديدة التي لا تعدو أن تكون بمثابة لعبة الكراسي الموسيقية تماماً فزيد مكان عبيد وعبيد مكان زيد ودمتم.
وهكذا تهادت عاصفة وفزعة مراكز التربية الخاصة التي انشقت عنها «جدران الصمت» لتنتهي عند إغلاق مركز وفتح آخر ونقل «ألدو» مكان «شاهين»، و«عمر»، مكان «زيد» ثم نقل «زيد» ليشغل مكانه «عبيد» دون أن يترك «عبيد» موقعه أو أن يحاسب لا سمح الله. وقد واكب ذلك كله وابل من التصريحات من كل جهة واتجاه؛ منفصلةً عن واقعها ركيكةً في صياغتها تقليدية في قالبها تتحدث عن: «الشفافية» و«الحياد» و«الحرص على المشاركة» و«الفئة العزيزة الغالية»، هذا فضلاً عن التوابل المعتادة التي لم يعد لها طعم ولا رائحة من مثل: «التغيير والتطوير والتعديل ومشاركة الجميع وتحمل المسؤولية والنوايا الحسنة…». ونحن ما علينا إلا أن تقشعر أبداننا وأن تُسحر أسماعنا بما يقال وأن ننأى بأنفسنا عن ركب «المعطلين والمتزمتين» الذين لا يرون من الكوب إلا نصفه الفارغ؛ فعلينا أن نقف مع كل ما يقوم به صنّاع القرار ومنفذوه بغض النظر عن قناعاتنا واقتناعنا ولو كان ذلك بالدعاء بالتوفيق لما يقوم به «صفوة» القوم من أصحاب الصلات والسطوات وليس بالضرورة أصحاب الاستحقاقات والاختصاصات.
ولم يخلُ المشهد من بعض لقطات «الإثارة» من زمن الأبيض والأسود، فانطلقت شائعات أو قد يكون أخبر عن تغييرات على مستويات رفيعة في بعض الجهات العاملة في مجال الإعاقة، ثم وفي اللحظات الأخيرة يتدخل المخرج من خلف الكاميرا ليمنع تلك التغييرات وفي الخلفية الكمنجات ترتعش أقواسها باعثةً شارة الخطر الموسيقية لتمتزج بقهقهة المعلم الفتوة يقول ولصوته العميق الخشن صدى يتردد: «ها ها ها، مش إحنا اللي حدى يلوي أيدينا».
وبذلك، تكون الأمور قد سارت في طريقها وسياقها الصحيح لتتناغم مع عموم المشهد الثابت غير المتحرك في هذا البلد الطيب أهله منذ عقود وعقود. فإذا كانت قد تعاقبت على هذا الشعب الصابر أكثر من 96 حكومة بعجرها وبجرها، وتناوبت عليه مجالس نواب وأعيان ما شاء الله وكان، والحال هو الحال والخلف والسلف يغزلون على ذات المنوال، والمآل هو المآل والألسنة تلهج بذات الشكوى والمقال، فلماذا يُتوقع أن تشذ حلبة الإعاقة الرسمية عن هذا الماضي التليد والواقع القديم الجديد؟
إن من الصور النمطية والسلوكيات الموروثة اتجاه الأشخاص ذوي الإعاقة؛ أنه إذا أراد أحد التحدث إليهم خاطب غيرهم، فمثلا، يسأل سائق التكسي الشخص الذي يرافق الشخص الكفيف: «وين بده يروح»، كما يسأل الطبيب من يرافق الشخص ذا الإعاقة الحركية: «ما له؟ شو وجعه». ولا غرابة أن تتكرس هذه الصورة على نحو أوضح وأكثر جلاء على صعيد رسم السياسات وصناعة القرارات واللقاءات والنقاشات وما إلى ذلك مما مضى وفات وما هو آت، فمن لجان تحقيق وتقصي ضمّت في جنباتها القاصي والداني حتى أنها ضمت ممثلين وأعضاء وموظفين عن الجهات الأربع المتهمة والمسؤولة وفقاً لتقريرها، إلى منظمات كبيرة وصغيرة تفتح أبواب إدارتها وقيادتها للجميع، إلى مجالس وهيئات وأقسام تتخذ من «شؤون» الإعاقة عنواناً لها وغطاءً لولايتها ومشروعيتها، يغيب أصحاب الشأن أنفسهم أو يُغيّبوا عن هذا كله وكأنه تماماً «مولد وصاحبه غائب». وفي الاتجاه نفسه، ومع تقدير واحترام مستحقين للكثرة المخلصة الجادة الواعية من الإعلاميين، فثمة قلة لا تعرف عن الإعاقة وقضاياها وحقوق أصحابها إلا ما تواترت عليه الأمثال الشعبية والمسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية من تجسيد نمطي للشخص ذي الإعاقة ووضعه بين فكي كماشة «يا سلام» أو «يا حرام»؛ تطل تلك القلة علينا من آن إلى آخر ليقولوا كلمات وعبارات أبعد ما تكون عن النهج القائم على الحقوق وعن روح ومبادئ اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة التي صادقنا عليها ونشرناها في الجريدة الرسمية دون أن يجد أهل الحل والعقد في بلدنا وقتاً لقراءتها أو فهم مضامينها، لتلحق بذلك تلك الاتفاقية العتيدة أخواتها من اتفاقيات حقوق الإنسان التي يطيب لساستنا الكلام عنها ويسوؤهم الاستناد إليها أو البناء عليها.
لقد باتت قضية الإعاقة لدى البعض مجرد موضةً راق لهم اتباعها وسلعةً رائجةً تهافت البعض على بيعها وابتياعها، وأصحاب القضية أنفسهم بين هذا وذاك يتلمسون طريقهم للخلاص من وصاية رويبضة الموضات وتجار التبرعات وجمع الصدقات.
لن نكرر ما قُطِع من وعود عليها شهود عن إصلاح وتغيير في يوم موعود؛ حيث حل الأجل وانقضت من بعده آجال والحال هو الحال، فلا نشاهد على الأرض صلاح، وإنما نسمع مديح المُريب لنفسه ولسان حاله يقول «خذوني خذوني».
ليس في كل ما حدث وما لن يحدث شيء مفاجىء على الإطلاق، والمفاجأة الوحيدة هي تفاجؤ البعض بمفاجأة عدم حدوث ما لم يكن ليحدث أصلاً. تلك فذلكة لغوية من جانبنا تتناغم وموضة الفذلكات الرسمية التي باتت تفتقر حتى إلى أبسط قواعد اللياقة الدبلوماسية والأخلاقيات المهنية؛ فلم يعد يخجل بعض من نشزت عظامهم واكتست بها لحومهم من الاقتيات على موائد شؤون وقضايا الأشخاص ذوي الإعاقة؛ من إظهار ازدرائهم وعدم احترامهم لأصحاب القضية الذين هم سبب ظهور نجمهم الذي بدأ في الأفول وتفتح أزهارهم التي نالها الذبول. ففي حين أجمعت حركة الإعاقة العالمية برمتها على أنه: «لا شيء عنا بدوننا»، يعمل من بيدهم الأمر من المتخفين الظاهرين؛ بمنطق: «لا شيء عنكم بدوننا ولا شأن لكم بشؤونكم ولا بشؤوننا»!!. وكما هو في مختلف مجالات وسياقات الشأن العام؛ فإن في حلبة الإعاقة كثرة تعي ما يحدث ويدور وقلة ارتضت أن تبقى في فلك غيرها تدور، ولكل خياراته وحساباته، غاية الأمر أن البعض مصاب بدوار التغيير بحيث لا يدرك أن: التعتيم وأخواته وأخوانه من: «التكتم والأيدي التي تلعب في الخفاء ورجل الظل…» كلها كلمات وعبارات بهت لونها وطُمِسَت جل حروفها من قاموس العمل العام ومن ذاكرة الشعوب التي تتململ مستيقظةً من عميق سباتها.
إن حال من يظنون أنهم يحركون كل ساكن ويسكتون كل متحرك من وراء حجاب؛ كحال من يرتدي «طاقية الإخفاء» التي تخفي صاحبها عن ناظِرَيه دون أن تمنع عنه رمق عيون الآخرين ورناها.
حينما يستخف أصحاب السلطة ـ أياً كانت سلطتهم ـ بقضايا فئة ما وبحقوقها، وحينما تغدو مطالبات التغيير والإصلاح في أعين البعض مجرد كشف أسماء وحركة تنقلات وتفاخر البعض الآخر بعدم الخضوع والإذعان للمطالبات؛ فعلى أصحاب القضية أن يستبشروا خيراً فتلكم هي أشراط التغيير الجذري والإصلاح الفعلي، ولكم في سنن الأولين والآخرين عبرة يا أولي الألباب.
ما عساه أن يؤثر في لوحة الشطرنج «أكل وزير» أو «كشة ملك» أو «تبييتة» أو اللعب مرةً بالأسود وأخرى بالأبيض؛ طالما كان اللاعبون هم اللاعبون والقطع هي القطع؟
شيلو «ألدو» وأنزلوا «شاهين» ما دمتم الجمهور واللاعبين، ولكن إلى حين، إلى حين.
باحث متخصص في الشؤون القانونية وحقوق الأشخاص المعاقين أحد المشاركين في صياغة نص الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص المعاقين.
يحمل درجة الدكتوراه في القانون الجنائي من جامعة الإسكندرية (2002)، من مؤلفاته كتاب بعنوان: «الحماية الجنائية للجسم البشري في ظل الاتجاهات الطبية الحديثة»، صدر عن دار النشر الجديدة للنشرالإسكندرية في العام نفسه.
عمل منسقاً لمنطقة الشرق الأوسط للحقوق وكسب التأييد، منظمة هانديكاب إنترناشونال، عمان الأردن، وعضواً في مجلس أمناء المركز الوطني في الأردن.