التعليم الذي يقوم على منهجية التلقين من أهم العلل في بناء ما نشهده اليوم من أجيال مأزومة تعجز عن المحاكمة العقلية الواعية لدى مجابهة الحياة
للموسيقى فوائد منها: تنمية الدماغ والرقي بمستوى التفكير وتهذب النفس وتخفف من التوتر العصبي عند الطفل وترفع من مستوى التذوق الفني عنده
الأمر الطبيعي بالنسبة لك قد يكون غير طبيعي بالنسبة لآخر، ولكي تنتقل من أمر طبيعي إلى أمر طبيعي آخر يجب أن تمر بوضع غير طبيعي.
مثال: لو قلنا بأن إدارة المدرسة قررت أن تعطي كل طالب في الصفوف الابتدائية مكافأة مالية يومياً «لأنه يقوم بمجهود ويحضر إلى المدرسة وقامت بتطبيق هذه الفكرة وأعطت كل الطلاب هذه المكافأة ما عدا طالبين فأين هو الأمر غير الطبيعي؟
بداية، كان هناك وضع طبيعي وهو لم يكن هناك صرف مبلغ مالي ولكن عندما تمت عملية التغيير وأصبح الطلاب يتقاضون أتعابهم أصبح عدم إعطاء الطالبين أتعابهم أمراً غير طبيعي.
وما علينا إلا أن نقوم بالتطبيق حتى ننطلق لوضع آخر فالأفكار لا تكفي، فما علينا إلا أن نبدأ بأطفالنا ونعلمهم الحرية والموسيقى وكل شيء يفيد الوطن لأن بناء الإنسان يبدأ منذ طفولته وهي أهم فترة لتكوين الشخصية، فالإنسان يصنع من خلال عدة عوامل وأهمها المدرسة والأهل والبيئة والإعلام وغيرها من العوامل
يقول أحد الفلاسفة أن العبقرية تكمن في سر الطفولة.
إن تعليم الموسيقى من أهم العوامل التي يجب أن نرتكز عليها لبناء الإنسان ليس بوصفها عملاً «موسيقياً» بل بوصفها تربية إنسانية متكاملة، إن الذين يؤمنون بالدور التربوي لبناء جيل المستقبل يدركون حقاً ما معنى التعليم الذي يقوم على منهجية التلقين البغيضة ـ التي ألفناها ـ ولعل هذه تكون واحدة من أهم العلل في بناء ما نشهده اليوم من أجيال مأزومة تعجز عن المحاكمة العقلية الواعية لدى مجابهة الحياة.
إن التقدم والتخلف قضيتان جذورهما فكرية تتمحوران حول المنهجية واللامنهجية وليست التكنولوجيا عملاً «خارقاً» أو «مستحيلاً» على أي شعب إذا ما أتيح له تربية العقل الممنهج، إنه العقل الذي تعلم كيف يفكر، فالتكنولوجيا هي العملية الإبداعية لمثل هذا العقل المنهجي وليس هذا العقل وليد الصدفة بل إن التربية والتعليم هي مجال بنائه، فإذا أفادت التربية والتعليم في لعب هذا الدور أدى إلى تقليص الفجوة بين التقدم والتخلف.
إن التربية والتعليم بحاجة إلى ضخ أفكار ومنهجيات جديدة تتيح بناء ناشئة تتحلى بالعقل المنهجي.
فمثلاً: عندما هزمت اليابان روسيا قال أحد جنرالات اليابان (انتصر المعلم الياباني)، وفي عام (1957) عندما سبق الصاروخ الروسي الصاروخ الأمريكي قال العالم الأمريكي (كارل ألندورفر) انتصرت المدرسة الروسية على المدرسة الأمريكية، وليس عجباً عندما نجد ديغول يعزي هزيمة بلاده فرنسا أمام ألمانيا إلى هزيمة المدرسة الفرنسية أمام المدرسة الألمانية، وليس ببعيد عن أذهاننا التقرير الأمريكي التربوي (أمة في خطر) عام (1983) وتقرير كوتكروفت التربوي الإنكليزي عام (1982) اللذين ينعيان الكثير من المصائب في بلادهما ويدعوان إلى تطوير تربوي أفضل، إذا كان بمقدورنا اكتشاف العيوب في أنظمتنا وأفكارنا يمكننا النجاة من مأساة مسيطرة علينا.
كيف نبني هذا العقل المنهجي؟
في الحقيقة يتألف الدماغ من قسمين، جانب أيمن وجانب أيسر، ومعظم الناس العاديين إذا لم نقل الكل يستعملون فقط الجانب الأيسر من الدماغ، الذنب ليس ذنبهم حيث يعود الذنب إلى التربية والتعليم وفشل مناهج التعليم.
لنبين الآن وظائف الجانبين والفرق بينهما:
يعالج الجانب الأيسر المعلومات عن طريق ربط الأجزاء بالكل بشكل خطي تتابعي أي يعمل بشكل تحليلي فهو يحلل اللغة ورموزها والأرقام.. أما الجانب الأيمن فهو تركيبي يختص بتوحيد الأجزاء وتجميعها لخلق الكليات فيعالج المعلومات بالتوازي وبشكل متزامن فيبحث عن الأنماط وينشئها ويعرف العلاقات ما بين الأجزاء المنفصلة وهو أكثر ما يكون فاعلية في الأمور ذات الطبيعة البصرية والمكانية. ويعمل الدماغ بشكل متكامل موحد يتداخل فيه ويتواصل الجانب الأيمن والجانب الأيسر على الدوام. إننا نملك أسلوبين مختلفين من عمل الدماغ ولكن متكاملين في معالجة المعلومات أحدهما خطى خطوة إثر خطوة يحلل الأجزاء التي تتشكل منها الأنماط والآخر مكاني علائقي يبحث ويبني الأنماط، فالجانب الأيسر يشبه الحاسوب الرقمي فهو خطي تسلسلي ينتقل من خطوة إلى الخطوة التي تليها بحسب قوانين المنطق واللغة الخاصة به، أما الجانب الأيمن فيشبه «المشكال» فهو يركب ويوحد أجزاءه بشكل آني ليكون أشكالاً مختلفة غنية فهو ينتقل من شكل إلى آخر بقفزات ترافق تحريك الأجزاء التي تدخله ليعاد تجميعها بأشكال وعلاقات جديدة، ففي الحاسوب الرقمي كل خطوة تقرر الخطوات التي يمكن أن تليها، بينما في المشكال يمكن أن تشكل الأجزاء فيما بينها عدداً غير محدد من الأشكال المختلفة.
إن تقنيات الجانب الأيمن من الدماغ تميل إلى تنشيط التفاعل الدماغي لذلك من المهم جداً «تقوية وتفعيل الجانب الأيمن الذي لا يقوى ولا يتفاعل إلا بتدريبه منذ الصغر» وأدوات تدريبه هي الفنون وعلى رأسها الموسيقى. فالعقل لا يصبح إبداعياً إلا إذا كان يعمل بجانبيه.
للأسف لقد حذفت مواد الفنون من مناهج التعليم وإذا كانت موجودة فلا يوجد الاهتمام بها وإذا كان هناك بعض الأساتذة الذين يهتمون بها فلا توجد مناهج سليمة للعمل بها من أجل بناء أجيال مبدعة، مع العلم أن الدول المتقدمة تعتمد تدريس الموسيقى في المدارس التحضيرية الابتدائية بشكل هام وكبير لا من أجل الترفيه والترف بل من أجل خلق جيل مبدع ومنظم وأخلاقي يتحلى فيه جميع أبناء هذا المجتمع بحالة إنسانية متكاملة، وإني واثق بأن طفل الموسيقى لا يطلق الشتائم ولا يرمي الأوساخ في الشوارع.
أجريت في إحدى الدول الغربية تجربة فقد أحضروا من إحدى الصفوف طلاباً مقصرين في موادهم العلمية وبدلاً من أن يخضعوهم إلى دورات تقوية قاموا بتعليمهم الموسيقى ـ طبعاً وفق أسس ومنهاج علمي يفي بالغرض وفي نهاية المطاف استطاع هؤلاء الطلاب التفوق على الطلاب المتفوقين من أهل صفهم.
فوائد تعليم الموسيقى:
للموسيقى فوائد عديدة منها:
- تنمي الدماغ وترقي مستوى التفكير.
- تساعد كثيراً في تهذيب النفس فيصبح الطفل ذا أخلاقية عالية تلقائياً.
- يصبح الطفل أكثر هدوءاً مما يساعد في التربية عند الأهل.
- تخفف من التوتر العصبي عند الطفل، وبالمناسبة افتتحت في الدول الغربية عيادات طبية خاصة وعامة تعالج الأمهات الحوامل وكثيراً من الأمراض بواسطة الاستماع إلى الموسيقى، بالطبع ليست أي موسيقى فهي موسيقى مدروسة وفق منهج علمي تفي بالغرض ولا غرابة في ذلك فقد استخدمت الموسيقى في العلاج منذ القدم وأول من استخدمها هم اليونانيون القدماء ولقد أكدت الأبحاث العلمية والدراسات الحديثة أن النغم والإيقاع يؤثران على المخ بشكل مباشر وهو بدوره يؤثر على وظائف الجسم التي يسيطر عليها ويوجهها كعضو مركزي فالغرض من استخدام الموسيقى ليس الترويح عن المرضى ورفع حالتهم المعنوية بل هو ذاك الدواء، و هنا تخطر على بالي حادثة حدثت مع الفنان السوري الكبير عابد عازارية، ففي إحدى زياراته إلى سورية قادماً من فرنسا كانت معه عائلته وابنته التي لا تتجاوز السبعة أشهر وقام أحد أقاربه بتشغيل أسطوانة لإحدى المطربات الدارجات عندها بدأت الصغيرة ببكاء شديد وصارخ حير الجميع، إنه بكاء فريد من نوعه، ولم يعرف أقارب الفنان عازارية السبب، وعندما دخل والدها الفنان عابد من الخارج ورأى الحالة أسرع إلى مكان المسجلة وقام بايقافها عندها توقفت الصغيرة عن البكاء ووضع كاسيتاً يناسبها وينسجم مع تكوينها وشخصيتها، عندها دهش الجميع بهذا الموقف وعرفوا أن للموسيقى أثراً كبيراً في حياة وشخصية الإنسان منذ طفولته وحتى مماته.
وهنا يراودني كلام كنت أقوله ولا زلت فلو قسمنا المجتمع إلى شرائح، مثلاً (شريحة المثقفين، شريحة التجار، شريحة الأميين، شريحة الناس البسطاء، شريحة أصحاب السوابق… إلخ)، لرأينا أن كل شريحة تستمع إلى نمط معين من الموسيقى، وأقولها جازماً لو استطاعت الجهات المعنية ووسائل الإعلام نفي نمط موسيقى أصحاب السوابق واستبداله بموسيقى مثل موسيقى الرحابنة وأغاني فيروز لتحولت هذه الشريحة إلى أناس معتدلين وعاديين.
- يرفع من مستوى التذوق عند الطفل عندها يرفض تلقائياً الموسيقى الهابطة ويتعامل مع الموسيقى الراقية مما ينعكس على تعامله مع أفراد مجتمعه ويعبر بصورة إيجابية عن حضارته.
مساوىء الموسيقى
لا تتحمل الموسيقى أي سوء وليس لها أي سلبية، وإذا كانت هناك سلبية فهي لم تأت من الموسيقى بل أتت من قبل بعض القائمين عليها، حيث استخدموها بشكل خاطىء مما أدى إلى تدمير وتخريب عقل وذوق المجتمع ودعمته كثير من وسائل الإعلام الفضائية التي لا نعرف من وراءها.
عندما نقول الموسيقى لا نقصد بها الغناء فقط بل الغناء والموسيقى الصامتة وهي الأهم، وللأسف فالقليل القليل من عامة الشعب تستمع إلى الموسيقى الصامتة.
أتمنى من الجميع أن يستمع إلى الموسيقى الصامتة ويتعودها كي يتذوقها، فالموسيقى الصامتة تنمي الخيال لأنها تطلق عنان الفكر والخيال معاً بينما الأغنية تحد من التفكير لأن الكلمة تقيدها.
مهندس قصي السعدي
عضو نقابة الفنانين بحماة ـ الجمهورية العربية السورية
حائز على جائزة الابداع على مستوى الوطن العربي في إيجاد نظرية في علم المقامات الشرقية والتي أقيمت في مدينة الشارقة بدولة الامارات العربية المتحدة في مارس 2006م