تتعرض الأسرة هذه اللبنة الأولى من لبنات المجتمع إلى الاختلافات والخلافات، من حين إلى آخر، فتؤثر على أفرادها من كبار وصغار.. معوقين وغير معاقين، سواء كانت هذه الأسرة غنية أو فقيرة، تعيش في الريف أو المدينة، ومن الضروري التعامل مع هذه الخلافات بحكمة ومرونة للتغلب عليها وتجاوزها من أجل الحفاظ على أسرة متماسكة قوية تعيش بمودة ومحبة، فتواجه تحديات الحياة وتصل إلى مستقبل أفضل، ولهذا اخترنا هذا الموضوع الذي يشكل مدخلا مناسبا لتدبير الخلافات الأسرية التي قد نواجهها جميعا في فترات مختلفة من حياتنا:
فن إدارة الخلافات الأسرية
لا يخلو بيت ما من خلافات بين أفراده، حتى في أشكالها الحميدة التي هي من باب الدفع الذي لا تنمو الحياة إلا به، وعلى رأس هذا البيت قطباه وعماده: الأب والأم، أو الزوج والزوجة، وهما باعتبارهما بشرا ولكل واحد منهما شخصيته وثقافته التي قدم منها وشكلت عاداته وخلفياته، من حق كل منهما أن يعبر عن نفسه، وإن أفرز هذا التعبير اختلافات قد تصل إلى حد المشاجرات والمشاحنات.
وقد يمضي الحال مقبولا لو كنا نتكلم عن مجرد رجل وامرأة، لكن حين يتعلق الأمر بوظيفة اجتماعية باعتبارهما عاملين في مؤسسة أسرية فإن الأمر يحتاج إلى وقفة؛ فوجود أي مشكلة بينهما تشعر الأبناء بالخطر والقلق والتوتر، وتقلل من إحساسهم بالاطمئنان.
المنع أم الحجب
ومن الغريب أن نعرف أن الخلاف الصامت الذي يحاول الوالدان إخفاءه ظاهريا عن الأبناء أشد تأثيرا على الأبناء من الخلاف الصاخب؛ فقد عزت بعض الآراء العلمية الحديثة أحد أسباب الربو في سنوات الطفولة الأولى إلى الخلاف المكتوم بين الأبوين الذي يستشعره الطفل وإن كان خافيا.
وعلى الجانب الآخر فالطفل الذي ينشأ في كنف والدين يبدو أنهما غاية في الاتفاق ـ أو هكذا يمثلان أمامه ـ ينقص تربيته جانب كبير يحتاجه لمواجهة الحياة الحقيقية بمكوناتها، فالطفل لا بد أن يعرف أن هناك غضبا يحتاج للتنفيس أو التعبير عنه، وأن هناك انفعالات ثائرة تحتاج للتعبير، بشكل لا يتجاوز حدود اللائق.
وبما أن منع الخلافات مناف للطبيعة البشرية وطبيعة الاجتماع البشري وما يحمله من احتكاكات يومية لا تخلو من اختلافات في وجهات النظر، تجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل منعها ـ فسبيل الحل هو إيجاد أسلوب للتفاهم، لا يقلل فقط من أثر تلك الخلافات على الأبناء، بل يتجاوزه إلى تدريبهم على فن إدارة الخلافات في حياتهم بشكل عام.
تشاجر ولكن
وبعد، فقد تقف عزيزي الأب عزيزتي الأم حائرين تتساءلان: وماذا نفعل؟
الأمر ببساطة أن نحيا الحياة على طبيعتها دون أن نكبت أنفسنا أو نضيع حقوقنا أو حقوق أطفالنا، والحل ببساطة أن نشمر لنتعلم جميعا فنون إدارة تفاصيل الحياة؛ فكما أن الطفل بحاجة لتماسك العلاقة بين والديه، ويحتاج إلى انسجامهما في مواجهة مسؤوليات الحياة، فهو بحاجة أيضا إلى حنكة والديه في إدارة الخلافات الأسرية بينهما، بما يعني موازنة ضبط الأمر بين اطلاع الطفل على حقائق الحياة وبين إشعاره بالأمان والاستقرار والتماسك.
فالطفل يتعلم مما يشهده من الإدارة الذكية لخلافات والديه أن مشاعر الغضب مسموح بها لأنها لا تؤذي أحدا، وأن الإحساس ما لم يرتبط بفعل فهو ما زال في نطاق المسموح، كما أنه يتعلم أن الاختلاف في الرأي لا يفترض أن يفسد للود أي قضية.
ضوابط إدارة الخلاف
يبقى أن نتعلم كزوجين مع أطفالنا ضوابط إدارة الخلاف الزوجي، بما يعطيهم المثل لتنظيم انفعالاتهم:
- لا بد من تجنب الإهانات تماما باللفظ أو القول أو الحركة؛ فتلك الإهانات تصيب الحالة العاطفية للطرف المهان بشكل عام بنوع من الشروخ يصعب إصلاحها، ناهيك عما يصل للطفل من مشاعر تدمر اطمئنانه لزمن بعيد، كما يستمر إحساس الطرف المهان بالعار والخجل مما لا يمكن إزالة آثاره لوقت بعيد.
- لا بد من السيطرة على الانفعالات في موقف الغضب كي لا تفلت، مع تأجيل المناقشة في الأمور التي يجب ألا يسمعها الأطفال إلى وقت لاحق.
- مع الأخذ في الاعتبار أن قرار تأجيل المناقشة يعني تجنب إصدار الهمهمات والغمغمات الساخطة المشمئزة التي تنم عن الكراهية بلا صوت، فإن ذلك يثير شكوك الطفل وقلقه وتوقعه للكوارث.
- لا بد من إفهام الطفل أن الخلاف مسألة عرضية وطبيعية وتذوب بسرعة، والأصل هو الحب والعلاقة القوية بين الأبوين، وأنهما يحبان بعضهما، ويحترم كل منهما الآخر ويخشى عليه كل سوء، وأن كل مشكلة تنتهي ويتجلى ذلك بالتعبير اللفظي عن هذه الرسالة، والعملي من خلال تعاملات الوالدين المتحضرة.
- ينبغي ألا يسمع الطفل أصوات الصراخ والغضب ـ إن كان لا بد منها ـ من خلف الباب المغلق، بل يفضل أن تكون المناقشة في وجود الطفل أو على الأقل بلا مؤثرات صوتية خلف الأبواب المغلقة.
- وبدلا من الصراخ الأعمى فلتكن فرصة لتنفيذ وصية الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الغضب، فيا حبذا لو استطاع أحد الوالدين المبادرة بتغيير جو الخلاف باقتراح تغيير الحالة، كالخروج في نزهة أو ممارسة لعبة، أو تناول أكلة تهدئ وتلطف الأجواء… أو التعامل بمرح، أو إنهاء الخلاف سريعا للتقليل شعور الطفل بألم الخلاف، مع اقتراح آليات لإرجاء المناقشة حال هدوء كل الأطراف، ومحاولة الطرف الهادئ تطييب خاطر الطرف الغاضب بشكل يعلن الاحترام له ولحالته الشعورية.
- لا داعي أن يلعب أحد الوالدين دور الشهيد المغلوب على أمره لكيلا يمتلئ الطفل قلقا وضيقا نحو واحد من اثنين يراهما أعز وأثمن ما يملك، أو يتحول إلى مستغل لهذه الحالة لمناصرة أحد الأطراف للحصول على مغانم خاصة به.
- يجب ألا يتحول الآباء لمفسرين لسلوكهم باستمرار، ويتحول الأبناء إلى قضاة بل يفضل تقليل الخلافات قدر المستطاع.
لا شك أن المرونة مطلوبة لحياة أكثر إشراقا، وصاحب مبادرة الحل وعلاج الخلاف ليس الطرف الخاسر بأي حال، بل هو صاحب الفضل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).
اليرموك للإعلام
ص ب 14189 دمشق