قبل أية مواجهة ينتاب الكثير منا قلق، وأي قلق هذا؟ إنه قلق مشروع، قلق وجودي، قلق به من المخاطر إذا ما فشل أحدنا في السيطرة فسوف يتحول حتماً إلى الاضطرابات النفسية، وأولها الاضطرابات النفسية الجسمية (اضطرابات السيكوسوماتيك)، ونحن نغور في هذا الحديث لابد لنا من وقفة العارف بما يجري بدواخلنا، وما نحمله من قدرة على المقاومة والتحمل والصبر الجميل، وليس نقيضه، الصبر المفروض علينا مثل حالة فقدان عزيز غادرنا قريباً وما زالت ذكراه تنخر في افكارنا وأفئدتنا.
ونحن نحاول سبر هذه الفنية نتذكر دائماً أن القلق هو القاسم المشترك في خيالاتنا، وأفكارنا ودواخلنا، وهو المادة الخام لكل الاضطرابات النفسية والعقلية، كيف نشعر به؟ نشعر عندما يضايقنا في أية لحظة ونحن نخطو نحو تبديل حالة الاستسلام، أو قل على الأقل تعديل أسلوب واحد فقط للإنطلاق نحو المواجهة الكبيرة، هي حقاً مواجهة، كيف استبدل شيء في نفسي بشيء آخر، تآلفت نفسي مع الاستسلام والخنوع، وقبول ما هو مسيطر على داخلي، وأنت أيها القارئ الكريم قد تكون معي وربما عانيت من فكرة تملكتك وسيطرت على معظم طاقتنا المهيئة للعمل الطبيعي، وأولها ساورك الشك في أن من ستقابله سيرفض حتماً ما تريد وهو طلب مشروع وقانوني، وهو صاحب القرار، وهو الضعيف والذي استقوى بالكرسي، وبدونه، فهو ممزق من الداخل، هذا القلق إذا ما فتك بصاحبه فإنه سوف يعبث بكل مقدراته النفسية والعقلية ويحول يومه وليله، وأسبوعه، وربما شهره بأكمله إلى جحيم من متاهات الوساوس، وينتقل إلى أضعف نقطة في جسمه ويستهدفها فتفتك النفس بنفسها، فربما يضرب المعدة ويحدث فيها القرحة، أو يرتفع السكر في الدم، فيكون مرض السكري، أو يرتفع ضغط الدم ويبقى عالقاً في أعلى درجاته، أو يضرب أي مكان آخر في جسد الإنسان فينهيه، ألا لعنة الله على القلق غير المشروع الذي يبعثر طاقتنا ويقتل معنوياتنا من الداخل ونحن في أدق مرحلة من المواجهة الخارجية مع الاضطرابات النفسية والعوامل المهيئة للاضطرابات العقلية مثل الاكتئاب العقلي الميلانخولي، وهو أشد أنواع الاضطرابات الذي يؤدي بصاحبه إلى الانتحار الحتمي، وليس محاولة الانتحار، بل فعل الانتحار المميت، بعد أن يشعر الفرد بالهزيمة والخيبة في كل مجالات الحياة، أو لمواجهة الأوبئة المصنعة أو المنطلقة من جحور غرف التاريخ والمعالجة وراثياً لإبادة البشر أو إيقاف طاقات البشر ومصالحهم الاقتصادية والعلمية التكنولوجية.
لكي نتوج هذه المناقشة وهذه الأفكار في قدرة الإنسان وعبقريته وثقته بنفسه بأن معرفة الإنسان بنفسه هي أولى خطوات فن القدرة على المواجهة، وهي التي ميزته بنرجسيته عن باقي الكائنات الحية الآخرى، لأنه اكتشف قارة بأسرها من الحياة النفسية له لم يرتدها من قبل.
نحن لا نفطن لمعارف جديدة دون جهاد ضد معارف سابقة ربما أنهكتنا وخلقت فينا الاستسلام، ويصدق ذلك أكثر ما يصدق على العلم بأحوال النفس، لأن إدراك الجديد عنها تقويض لألفتنا بها كما يقول (العلامة الدكتور مصطفى زيور) رحمه الله حتى لنكاد نمسي غرباء عن أنفسنا. لا بل سوف يفقدنا هذا الاغتراب احساسنا بالوجود في الحياة ونحن بين أحبتنا وأهلنا ويذيع في النفس إشفاقاً يهز كياننا من داخل نفسنا.
علينا أن نفطن إلى أن مقاومة ومجاهدة النفس والكشف عن أعماقها لا تأتينا من الخارج، وإنما تأتينا من داخل أنفسنا، ويبدو أن الناس في حقيقة الامر يرغبون بالسعادة والسلام والتوازن والصحة ولكنهم خائفون من الفشل في المواجهة لذا تكون العصبية والتوتر والعدوانية والإنهاك النفسي هو السائد على السلوك اليومي في التعامل مع الأبناء ومع أفراد الأسرة ومع المحيط الخارجي في المجتمع، فنلاحظ الشارع يعج بالتوتر، وصاحب المحل يعيش التوتر بكل صوره، وكذلك المدرس، والطبيب، والفلاح، والبائع البسيط، وسائق سيارة الأجرة، وجميع أفراد المجتمع، إنه عالم متوتر وزاد ذلك التوتر في الحضارة والسعي في اللحاق بها، عامل الأوبئة وانتشارها السريع وغير المسيطر عليه رغم ادعاء التطور العلمي والتكنولوجي والحضاري.
كيف يصبح الإنسان واعياً؟ الوعي هو الكمال، والوعي هو الذي يقود الإنسان العارف بما يجري في عقله وتفكيره ومن حوله إلى تغيير قسري مع مجاهدة النفس للخلاص من أقذر الأفكار التي تثقل كاهله.
يقول (بيير داكو): لكي نغير الظروف، علينا أن نفهمها. ويضيف (داكو): يعتقد الكثيرون أنهم يفهمون الأمور في حين أنهم يقتصرون على رؤيتها عبر ذات (أنا) مشوهة، ومن ثم يقررون أن ما هو صحيح وفي الحقيقة ليس هو كذلك، والصحيح هو علينا أن نتحرر من تصوراتنا الخاطئة حتى نحقق الفهم الصحيح، وإلا فإن معارف جديدة تنبني على قواعد خاطئة، وهذه الأفكار تنتشر اليوم في معظم المجتمعات العربية والإسلامية والعالم الثالث، إنها كارثة حقيقية، الكل متعلق بالكل، الكل يصر على الصح وهو في الحقيقة ليس كذلك.
إن الإنسان اليوم في غفلة من الوعي، بين هجمات غرائز الحضارة ومتطلباتها، وبين قدراته الذاتية التي لا ترقى إلى مواكبة هذه الفجوة التي فجرتها جائحة العالم اليوم، فلم تعد حضارة متقدمة، وأخرى متخلفة بقدر ما هو سلوكنا جميعاً في العلاقات الإجتماعية، وفي استعدادتنا العاطفية، وخلقنا الغالب أي طبائعنا بين التوحش والتحضر، والأكثر في التوحش والهمجية، لأن سلوكنا تابع لأمزجتنا وجملتنا العصبية الإنفعالية واستعداداتنا النفسية، حتى أن الحرية المتزايدة بشكل مضطرد تتيح أكثر فأكثر للنزعات الخبيثة التي كانت تكفّها القيم الثقافية واليوم تتبدى صريحة في سلوك مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي وعوالم العالم الإلكتروني الخفية، أنها لم تتطبع في الطفولة تطبيعاً اجتماعياً صحيحاً، فبقيت غرائزنا تحرك رغباتنا، والرغبة هي الدافع القوي نحو السلوك بكل أشكاله، والحافز نحو الفعل، والحفز كما يقول (دانيل لاجاش) عالم التحليل النفسي الفرنسي حالة من التفكك والتوتر تحرك الكائن الحي الذي لا يهدأ إلى أن يخفض التوتر ويستعيد تكامله وهو ما يسمى بمبدأ الثبات.
إننا أزاء معضلة الوجود السوي، وجود الصحة المقرونة بالأمن، وهذا صلب فن العيش، ويعتمد ذلك على اعتراف الإنسان بالاخفاق أولاً رغم أن غالبية الناس لا يعترفون بذلك ويصرحون به، لأن هذا الاعتراف كما يعتقد البعض بأنه ضعف أو الشعور بالمهانة والدونية، لذا فإنهم بنوا لأنفسهم واجهة من الحماية التي تمنع مشكلات من أن تمسهم ولكن هذا غير صحيح إطلاقاً، مثل المصاب بمرض السرطان الذي ينخر في جسمه ولا يعترف بوجوده وانتشاره، إنهم يخشون الظروف الجديدة التي لا يتحملها ضعفهم، وموقفهم واحد هو التصلب.
وتبين الدراسات النفسية أن غالبية المخاوف والشك والوساوس والصراعات النفسية الداخلية، أنها توقف التطور النفسي الإنساني، وتوقف التغيير في السلوك والتعامل اليومي، أنهم إذن اشخاص أصيبوا بالعطل النفسي والمجهلة بما يحيط بهم.
يقول عالم التحليل النفسي (صلاح مخيمر) إن السوية تنحصر في هذا التعايش السلمي القائم على الاحترام المتبادل للحدود الفاصلة بين العالمين، بينما تكون العصابية (الاضطرابات النفسية) في هذا التسلل غير الشرعي لبعض عناصر العالم الداخلي، فإذا ما بلغ التسلل حد الاجتياح الشامل أو ما يقترب من ذلك لعالم الخارج فعندئذ تكون الذهانية (الاضطرابات العقلية).
وقولنا في الأخير ما أكثر الشخصيات في الشخصية الواحدة وبالأخص في مواجهة الأزمات والكوارث والأوبئة، نتمنى في أن يستطيع أي منا أن يوحد شخصياته المتعددة في داخله في شخصية واحدة لمواجهة أزمات الكون الداخلية والخارجية من أجل حالته السوية.
العمل الاكاديمي:
- أستاذ جامعي في العراق ـ ليبيا ـ السويد ـ الدنمارك
- سيكولوجي في السويد
- العمل مع مركز الدراسات وسط السويد (اخصائي نفسي اجتماعي),
الشهادات العلمية:
- دكتوراه علم النفس والارشاد النفسي.
- ماجستير علم النفس والارشاد
- ليسانس علم النفس ـ كلية الآداب – جامعة عين شمس بالقاهرة ـ مصر
الكتب العلمية المتخصصة المنشورة:
- السلوك الجمعي
- سيكولوجية الشخصية
- علم نفس الشواذ
- سيكولوجية الفروق الفردية (علم النفس الفارقي),
- مشكلات نفسية ـ اجتماعية معاصرة (الدنمارك 2007),.
- العديد من المقالات العلمية المتخصصة في علم النفس والاجتماع. منشورة في المواقع الإلكترونية والصحف والمجلات العربية.