لقد راعني كما راع كل إنسان حر وشريف في هذا البلد وفي العالم أجمع ما تضمنه وثائقي (خلف جدران الصمت) الذي بثّته قناة بي بي سي منذ أيام، ولن نخوض هنا في استعادة المشاهد المؤلمة والممارسات السادية التي احتواها الفيلم من جانب عصبة من تجار المبادئ الذين كما جاء في الرسالة الملكية أنهم: (انقلبوا على رسالتهم).
وإنما الحديث ينصب على ما يؤشر إليه هذا الفيلم من خواء المنظومة التشريعية والأخلاقية التي تحكم العمل المؤسسي بوجه عام وفي مجال الأشخاص ذوي الإعاقة على وجه الخصوص وكيفية تعاطي الحكومة مع هذا الحدث الجلل.
فقد سارع وزير التنمية الاجتماعية إلى الإعلان عن تشكيل لجنة من داخل وخارج وزارة التنمية الاجتماعية، ثم بعد ذلك بسويعات، جاءت زيارة جلالة الملك إلى بعض تلك المراكز ثم صدرت توجيهات ملكية في مساء اليوم نفسه إلى رئيس الوزراء بضرورة تقصي الحقائق من خلال لجنة تنهي عملها خلال أسبوعين.
والواقع أن القراءة الصحيحة التي تفسر الإرادة الملكية وتنسجم وأبجديات معايير التحقيق المستقل والحياد والشفافية، كانت تقتضي أن تكون هذه اللجنة ذات استقلال تام عن أي جهة تنفيذية خصوصاً تلك الجهات التي تضطلع بمسؤولية متبعة ومراقبة تلك المراكز وعلى رأسها وزارة التنمية الاجتماعية والمجلس الأعلى لشؤون الأشخاص المعوقين.
إلا أن الحكومة أبت إلا أن تواكب عادتها وتخالف ناموس العالم الحر ومعايير التحقيق المستقل والشفافية والحياد في تحقيق مبادئ العدالة وسيادة القانون، فجاءت اللجنة مُشكلةً بقرار من وزارة التنمية الاجتماعية بل وبرئاستها وعضوية مسؤول التفتيش فيها وغيره من الموظفين، وكذلك عضوية المجلس الأعلى لشؤون الأشخاص المعوقين وبعض ممثلي منظمات المجتمع المدني وعضوية المركز الوطني لحقوق الإنسان الذي أصدر تقريراً حول اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة منذ عام تقريباً لم يشر فيه من بعيد أو قريب إلى سوء أوضاع هذه المراكز وما يُرتكب فيها من انتهاكات.
ثم والت الحكومة نهجها المعتاد فقامت بما قامت به دون أي استشارة مسبقة مع أصحاب الشأن أنفسهم من الأشخاص ذوي الإعاقة ومنظماتهم لتكرس مرةً أخرى وليست أخيرة التوجه الإقصائي لأصحاب القضية من قضاياهم.
والسؤال الآن وفي ضوء هذه التوجهات والوقائع، هل نحن في عالم من اليوتوبيا أو في ظلال المدينة الفاضلة بحيث نتوقع أن تقوم وزارة التنمية الاجتماعية والمجلس الأعلى بل والحكومة برمتها؛ بإدانة نفسها ودعوة الضحايا إلى مساءلتها قضائيا؟ كيف تكونون خصوماً وتكونون حكّاما في الوقت نفسه؟ هل سيحقق مسؤولوا وزارة التنمية الاجتماعية والمجلس الأعلى لشؤون الأشخاص المعوقين مع أنفسهم ويحاسبونها على ما وصلهم من معلومات منذ شهور أثناء إعداد هذا الوثائقي لكونهم استخفوا بما وصلهم ولم يلقو له بالا؟
يبدو أن المعنيين عندنا لا يقرأون بتمعن ما يصادقون عليه من اتفاقيات ومواثيق دولية لا قبل المصادقة ولا بعدها. فاتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة التي صادقت عليها الأردن ونشرتها في الجريدة الرسمية في عام 2008؛ تتضمن نصوصاً وأحكاماً قاطعة تلزم الدولة بضرورة إنشاء آليات للرصد والمتابعة والرقابة، وكذلك اتخاذ تدابير صارمة لحماية الأشخاص ذوي الإعاقة وخاصة الأطفال منهم من العنف والاستغلال وسوء المعاملة وضمان احترام كرامتهم وتكاملهم الجسدي كما هو في المواد: 3، 4، 14، 15، 16، 17، والمادة 33. هل تحتاج مثل هذه التدابير إلى أكثر من 5 سنوات هي عمر الاتفاقية في هذا البلد الطيب حتى يتم تشريعها وتفعيلها؟
إلى متى ستبقى حقوق العباد رهينة الفزعة وعلى محك التنازع حول الاختصاصات وقذف الكرة في ملعب الآخر؟ إلى متى ستبقى يقظة المسؤولين معلقةً بوقوع المصيبة أولا ثم اتخاذ ردة فعل عليها؟ إلى متى ستبقى التجهيزات والنظافة والتلميع حبيسة المخازن لا تخرج إلا على وقع خبر زيارة مفاجئة أو إجراء مقابلة صحفية أو تلفزيونية مصورة تخفي الوجه القبيح وتظهر الوجه الناصع الذي عمره من عمر عدد دقائق لحظات التقاط الصورة؟ إلى متى إلى متى؟
إنّ ما أحدثه هذا الفيلم الوثائقي يشبه في ارتداداته ما أحدثته بعض ثورات (الربيع) العربي، فهناك الفساد الجاثم والمتراكم منذ سنين في حلبة الإعاقة والذي حانت ساعة صنّاعه، وهناك الحرس القديم الذي ينازع من أجل تثبيت جذوره في أرض بور تشققت لتُخرِج أثقالها، وهناك المتسلقون المتقلبون الذين يركبون كل موجة ويطبّلون في كل هوجة، وهناك الضبابية ذاتها حيث يختلط الحابل بالنابل وتتسارع فيه الخطى إما تحقيق مكسب أو لتأمين مهرب.
ثمة فارق بسيط بين ثورات (الربيع) العربي وما نحن فيه اليوم عقب هذا الفيلم التاريخي، ألا وهو أن الثورات قام بها ثوار أحرار، في حين أن ما نحن فيه موجه ومرهون بفزعة وقرار.
لقد قال أسلافنا: (ما حك جلدك مثل ظفرك، فتولى أنت جميع أمرك)، فإن أبت الحكومة إلا أن تهمش وتحجم قضية تستعصي على التحجيم وتحصرها في لجنة إدارية لم ترق حتى إلى مصاف لجان التأديب، وإذا كان المعنيون لم يروا في ما شاهدوه من وقائع جرمية على شاشة التلفزيون مسوغاً كافياً للتحرك الفوري مرجئين كل شيء إلى أن تنهي اللجنة تقصيها، وإذا لم يدر في خلد من شكّلوا اللجنة أن يتشاوروا مع أصحاب الشأن أنفسهم، إن كان هذا كله قد حدث من الحكومة ومن واكبها طوعاً واختيارا، فإننا نحن أصحاب القضية سنبقى كلمة السر وصبغة الشرعية لكل ما يتعلق بشؤوننا، فشعار (لا شيء عنا بدوننا) ولد مع ولادة فكرة صياغة اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة ولم ولن يموت حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
إن ما يحدث خلف جدران الصمت يدمي القلب ليس فقط لبشاعته المادية الملموسة، ولكن أيضاً لدلالاته على ما اعترى منظومة الأخلاق في العمل المدني والعمل العام على حدٍ سواء من ضعف وهوان، ولما كشفه من عدم تورّع البعض ممن ينادون بتطبيق مبادئ حقوق الإنسان والعدالة بحذافيرها، من تغيير دفة مبادئهم حول معايير النزاهة والشفافية والتحقيق المستقل، ناهيك عن ظهور أناس أشبه ما يكونوا بتجار الحرب، يبحثون في الركام عن ما يقيم أودهم المتهالك، أو يعرضون سلعتهم لحصد تمويل من مختلف المسالك. لعَمري وكأنني بسوق عكاظ، يتبارى فيه الشعراء ويتنافس فيه التجار بيعاً وشراء، كّلا أيها السيدات والسادة، لسنا المتنبي ولستم سيف الدولة الحمداني حتى تكونوا الخصم والحكم.
باحث متخصص في الشؤون القانونية وحقوق الأشخاص المعاقين أحد المشاركين في صياغة نص الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص المعاقين.
يحمل درجة الدكتوراه في القانون الجنائي من جامعة الإسكندرية (2002)، من مؤلفاته كتاب بعنوان: «الحماية الجنائية للجسم البشري في ظل الاتجاهات الطبية الحديثة»، صدر عن دار النشر الجديدة للنشرالإسكندرية في العام نفسه.
عمل منسقاً لمنطقة الشرق الأوسط للحقوق وكسب التأييد، منظمة هانديكاب إنترناشونال، عمان الأردن، وعضواً في مجلس أمناء المركز الوطني في الأردن.