قضايا حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة واحدة حول العالم
بقلم محمد زكريا النابلسي
“أمهات البطاريق” هو دراما بولندية عُرضت لأول مرة على منصة نتفليكس في 13 أكتوبر 2024. يتألف المسلسل من ست حلقات، تستعرض بجرأة وحساسية التحديات النفسية والاجتماعية التي تواجه الأمهات في تربية أطفال من ذوي الإعاقة. من خلال قصص ثلاث أمهات:
- كاميلا (كاما): مقاتلة فنون قتالية مختلطة (MMA) وأم عزباء لابنها ياش. تكتشف كاميلا أن ابنها من ذوي اضطراب طيف التوحد، وتجد صعوبة في قبول هذا الواقع، خاصةً مع طبيعتها الصارمة وتربيتها التي تعتمد على الانضباط. تتطور شخصيتها مع تقدم الأحداث، حيث تتعلم كيفية التكيف مع احتياجات ابنها وفهمها.
- أولا: أم لثلاثة أطفال، اثنان منهما من ذوي متلازمة داون. تستخدم أولا وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الوعي حول تربية الأطفال ذوي الإعاقة، وتُعتبر شخصية مؤثرة تسعى لجعل العالم مكانًا أفضل لأطفالها.
- تاتيانا: أم لابن يُدعى ميهاو، مصاب بضمور عضلي. تُكرس حياتها لرعاية ابنها، وتواجه تحديات يومية تتعلق بصحته واحتياجاته الخاصة، بالإضافة إلى التعامل مع علاقتها الزوجية المتوترة.
بالإضافة إلى والد الطفلة “هيلا” الباحث في مجال الفنون.
ولكن تلك الشخصيات التي تدير أحداث المسلسل، ما هي إلا ظلال لقضايا أطفالها الأربعة. فالمسلسل يتناول قضايا الإنكار، الشعور بالذنب، الدمج المجتمعي، والدعم النفسي، إلى جانب استكشاف الجوانب الحقوقية المرتبطة بالأشخاص ذوي الإعاقة، والتي تبدو هي ذاتها القضايا التي يتعرض لها الأشخاص ذوو الإعاقة حول العالم.
لَستُنَّ السبب!
يتناول المسلسل قضية الإنكار كأحد ردود الفعل الأولية للأهل عند تشخيص إعاقة طفلهم، والذي يتفق الجميع بأنه أول ما يشعر به الأهل حول العالم. في أحد المشاهد المؤثرة، تُسأل كاميلا، المصارعة وأم الطفل المصاب باضطراب طيف التوحد، “مما تخافين؟”، ليكشف السؤال عن مخاوفها العميقة من نظرة المجتمع والتغيير الجذري في حياتها. يُبرز المسلسل أن الشعور بالذنب أيضاً يُثقل كاهل الأمهات، إذ يعتقدن أنهن السبب في حالة أطفالهن. هذه المشاعر تعكس التحديات النفسية التي تواجهها الأمهات، وتؤكد أهمية الدعم النفسي والاجتماعي في تجاوزها.
يحاول المسلسل من خلال قصة البطلة التي تسعى إلى انكار إعاقة ولدها إلى عكس شعور أولياء الأمور طوال الوقت في محاولتهم لتأمين أفضل مستقبل لأبنائهم، فمن خلال محاولتها لإيجاد مدرسة مناسبة لولدها، كانت ترفض أن يكون ولدها في مقارنة مباشرة مع الأطفال ذوي الإعاقة، باعتباره طفلاً ذكياً استطاع القراءة وهو في عمر الرابعة، وكانت تحاول دائماً أن تنكر إعاقته، في محاولة منها لضمان مستقبل أفضل لولدها، فأكثر ما يخيف أولياء الأمور عند معرفة إعاقة أبنائهم هو مستقبلهم، فهو ليس مستقبلاً مألوفاً، ولا يحمل إجابة واحدة، وفي الحقيقة ينسون أن كل الأطفال ليس لديهم إجابة واحدة حول المستقبل، فهم يرسمون مستقبلهم بأنفسهم.
وفي الحلقة الأخيرة من الموسم الأول، تقول أم البطلة لابنتها: إنه من الصعب عدم ارتكاب الأخطاء بوجود طفل. وربما ارتكاب الأخطاء هو أكبر مخاوف أي أب أو أم سواء كان أطفالهما من ذوي الإعاقة أو من غير ذوي الإعاقة.
وفي مشهد آخر يحاول فيه والد الطفلة “هيلا” التي تم تشخيصها بخلل وراثي نادر أن يجد مدرسة مناسبة لابنته، يسمع تلك الجملة الحاسمة (الأصعب للأطفال هو توقعات الأهل) وهو ما يعكس الجانب النفسي لتوقعات الأهل، تُقال هذه العبارة على لسان مديرة مركز للأشخاص ذوي الإعاقة، وتُبرز العبء النفسي الذي قد تُسببه توقعات الأهل غير الواقعية للأطفال. وهو ما يحاول أن يؤكده المسلسل من خلال أهمية تقبل الأهل لقدرات أطفالهم والابتعاد عن الضغط لتحقيق طموحات قد تكون أكبر من إمكانياتهم.
لا يوجد مجتمع فاضل:
يعرض المسلسل مشاهد تُبرز تنوع ردود فعل المجتمع تجاه الأطفال ذوي الإعاقة. من جهة، نجد شخصيات داعمة مثل عامل المقهى الذي يُعامل الأطفال بحب واهتمام، ومن جهة أخرى، نرى مواقف تعكس الجهل أو حتى التنمر. هذه الثنائية تسلط الضوء على الحاجة إلى زيادة الوعي المجتمعي بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وتعزيز قبولهم كجزء لا يتجزأ من المجتمع، وفي الحقيقة إن هذه المشاهد تكسر تلك الصور النمطية بأن المجتمعات الغربية هي مجتمعات فاضلة، أو قادرة على التعامل مع القضايا بوعي أكبر، ولكن لا شك أن المنظومة الحقوقية أكثر رسوخاً في مجتمعاتهم بشكلها القانوني، ولكن على أرض الواقع فالمجتمعات البشرية تحمل هذا التنوع، ومن الصعب التنبؤ بردة فعل واحدة في التعامل مع الاختلاف، خاصة مع قلة الوعي أو المعرفة.
والمجتمع في الواقع يدعم إحساس الانكار الموجود لدى الأهالي من خلال دعم هذه الفكرة، فقد قال صديق كاما جملة تعبر عن دعمه لإحساس الانكار لديها: هذه الأيام يحاولون إيجاد وصف لكل شيء.
تُبرز هذه العبارة الفجوة في فهم الإعاقة. فبينما كان يتم تجاهل التشخيص في الماضي، يُظهر المسلسل أهمية الفهم العلمي الحديث للإعاقات، دون إغفال الجانب الإنساني أيضاً.
قضايا حقوقية أساسية:
يُبرز المسلسل تحديات الدمج التعليمي من خلال قصة أولياء الأمور، والجهود التي يبذلونها لضمان حصول أبنائهم وبناتهم على حقهم في التعليم، يواجهون عوائق تتعلق بنقص الدعم والمناهج غير الملائمة. هذه القصة تُظهر أهمية الالتزام بتوفير بيئة تعليمية دامجة تُلبي احتياجات الأطفال ذوي الإعاقة التعليمية، وتُركز على حقوقهم في التعليم المتساوي.
وإلى جانب تركيز المسلسل على حق الأطفال ذوي الإعاقة في التعليم الدامج، فهو يركز على الدعم المجتمعي والحاجة إلى بناء مجتمع يدعم الأمهات ويُعزز فرص الأطفال ذوي الإعاقة في الاندماج، وتعزيز حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، ليس فقط عبر القوانين، ولكن أيضاً من خلال تغيير الثقافة المجتمعية.
لا ننسى الأمهات:
تُعد كاميلا شخصية فريدة من نوعها كأم تعمل في رياضة الفنون القتالية المختلطة (MMA). وظيفتها غير التقليدية تعكس صراعها بين حياتها المهنية ورعاية ابنها. المسلسل يُبرز أهمية كسر الصور النمطية عن الأمهات، خاصة اللواتي يربين أطفالاً من ذوي الإعاقة، ويُشجع على تقبل الأدوار المتعددة التي قد تضطلع بها المرأة في الحياة، وهو أمر أساسي فمقابل كاما التي تحاول النجاح في حياتها المهنية، هناك الأم تاتيانا التي قررت أن تفني حياتها تنتظر على باب المدرسة في حال احتاج ولدها الدخول إلى الحمام، من خلال الحماية الزائدة التي تقدمها الأمهات، وينسين أنفسهن في غمرة تلك المشكلات، ومن جهة أخرى هذه إشارة واضحة إلى ضعف المنظومة والبنية التعليمية التي تراعي الاختلافات الفردية للطلبة، واحتياجاتهم النفسية والتعليمية والصحية.
أمهات البطاريق“
اسم المسلسل يحمل دلالات رمزية قوية. البطاريق البالغة تراعي بعضها البعض وتُربي صغارها معًا، لكنها لا تطير كباقي الطيور، بل تسبح بطريقة مميزة. العنوان يُبرز فكرة أن الأطفال ذوي الإعاقة، رغم اختلافهم، يمتلكون قدرات خاصة تجعلهم مميزين. كما يُسلط الضوء على أهمية الدعم المجتمعي للأسر، باعتباره السبيل لتحقيق التكافل الحقيقي.
هو أكثر من مجرد مسلسل؛ إنه رسالة إنسانية وحقوقية تُسلط الضوء على التحديات النفسية والاجتماعية والحقوقية التي تواجه الأمهات وأطفالهن من ذوي الإعاقة. من خلال شخصياته الواقعية وقصصه المؤثرة، يُقدم العمل دعوة للتفكير والتغيير، مما يجعله علامة فارقة في الدراما التلفزيونية.
حصل المسلسل على إشادة واسعة من النقاد والمشاهدين على حد سواء. أشاد النقاد بالتمثيل الواقعي والعميق للشخصيات، خاصةً أداء ماشا واغروتسكا في دور كاميلا. كما نُوّه بالتصوير الواقعي للتحديات اليومية التي تواجهها الأمهات في تربية الأطفال ذوي الإعاقة، دون اللجوء إلى الميلودراما أو التجميل.
https://www.netflix.com/ae/title/81628561

• كاتب أردني مقيم في الشارقة
• مسؤول العمليات الفنية في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية
• يعمل في مجال الإعاقة والمؤسسات غير الربحية منذ أكثر من عشرين عاماً، شغوف بتعزيز حق القراءة للأشخاص من ذوي الإعاقة، وترسيخ الصورة الحقوقية عنهم في كتب الأطفال واليافعين.
• لديه العديد من المفالات منشورة في عدد من الدوريات العربية الالكترونية والورقية تحمل مراجعات نقدية للكتب، والسينما والحقوق الثقافية لللأشخاص ذوي الإعاقة.
• لديه خبرة في المسرح مع الأطفال والأشخاص من ذوي الإعاقة لديه مشاركات عديدة في مؤتمرات ثقافية ومتخصصة في مجال الكتب والمسرح.
صدر له:
• عن رواية تمر ومسالا – لليافعين عام – 2019 – دار (و) للنشر والوسائل التعليمية – دولة الإمارات العربية المتحدة. –
• قصة خياط الطوارئ – للأطفال عام 2020 ( تحت الطبع) – دار (و) للنشر والوسائل التعليمية – دولة الإمارات العربية المتحدة. –
• حاصل على المركز الأول في جائزة عبد الحميد شومان لأدب الأطفال سنة 2020 عن قصته “غول المكتبة”