إن الزواج مسألة بالغة الأهمية لدى كثير من العرب، وتشكل جانباً أساسيّاً في حياتهم. لكن الزواج بالنسبة للشخص المعاق يحمل مفهوماً مختلفاً تماماً، فبصفتي امرأة ولدت بإعاقة جسدية فقد شعرت أن هناك حاجة لمعالجة بعض النقاط المتعلقة بمسألة الزواج.
فالنقطة الرئيسية ـ من وجهة نظري ـ والتي ينبغي معالجتها أو إلقاء الضوء عليها؛ تتمثل في توضيح الفرق بين تعاليم الإسلام والأفكار والتقاليد الثقافية الموروثة حول هذا الموضوع.
ومن المهم أن ندرك أن كل فرد ـ سواء كان لديه شريك حياة أم لا ـ سيحاسب عن أفعاله فقط يوم القيامة.
ولا يوجد لدي أدنى شك بأن الزواج نعمة، حاله حال أي نعمة أخرى من نعم الله سبحانه وتعالى مثل المال والصحة والأطفال والعمل، وتتعدد النعم الأخرى فلا يمكن عدها أو حصرها، كما أن كثيراً من الناس ـ وليس كلهم ـ يحلمون بتحقيق زواج ناجح، وبعضهم يعيش حياة زوجية طويلة وسعيدة أيضاً؛ بينما يفشل قسم آخر في تحقيق ذلك.
كما أن كثيراً من الناس قد جعلوني أعتقد أن العالم الإسلامي يعتبر الزواج عنصراً أساسيّاً في حياة الفرد. وهناك شروط مسبقة لتحقيق ذلك كالتساوي بين الزوجين في القدرة البدنية / والصحية؛ ومن ثَمَّ فإن الأشخاص ذوي الإعاقة يتم استبعادهم بشكل ما.
إن الزواج ـ مثل أي جانب آخر من جوانب الحياة ـ هو (خيار) لا يجب أن يحدد شخصيتك أو هويتك الدينية، ويجب علينا ألا ندعم التوجه الثقافي الذي يربطه بالمنظور الإسلامي، فبدلاً من ذلك يجب علينا أن نسعى لتغيير المواقف وتثقيف الناس لرفع مستوى الوعي حول ما تنطوي عليه الحياة بوجود الإعاقة. وعلى كلٍّ، فإن الإسلام دين يعزز المعرفة والتعليم والمساواة.
من المهم أن نتعلم من الحقائق التاريخية لفهم حاضرنا وتطوير مستقبلنا، وتحديداً فيما يتعلق بالإعاقة. فعبر القرون الماضية من الحضارة الإسلامية لعب عدد كبير من فاقدي البصر أو الصم أو المعاقين جسديّاً دوراً بارزاً في الحياة، بوصفهم علماء للغة أو الممارسات القانونية أو معلمين وشعراء أو ناشطين اجتماعيين وغيرهم، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: أبو العلاء المعري، وأبو عثمان عمرو بن بحر (الجاحظ)، وبشار بن برد، وابن سيرين، وقتادة بن دياما السادوسي، وموفق الدين مظفر، وثعلب، وهؤلاء جميعاً ساهموا بِشكلٍ مهم في تكوين حضارتنا الحديثة.
وانظر أيضاً إلى عطاء ابن أبي رباح فقد كان أسود البشرة، وكان مشلولاً شللاً جزئيّاً ولم يكن يستطيع المشي، ومع هذا فقد كان أعظم مفتي في مكة المكرمة؛ وذلك لأن فرص المشاركة كانت تقدم وقتها للجميع بغض النظر عن قدراتهم البدنية.
وفي وقت لاحق، في البلاط العثماني في القرنين السادس عشر والسابع عشر تم تدريس الحكام والسلاطين لغة الإشارة كي يتمكنوا من فهم الخدم الصم، وذلك عندما أصبحت هذه اللغة وسيلة معترفاً بها للاتصال. وكان ذلك في الفترة التي كان الأوروبيون الغربيون لا يزالون يناقشون ما إذا كان الصم قادرين على تعلم أي شيء أو التفكير ككائنات عقلانية أم لا!
ولا أدري كيف تغيرت الأمور وبشكل كبير خلال سنوات، ولماذا تتسبب فكرة زواج شخص ذي إعاقة بمشكلة في المجتمع الإسلامي أكثر مما هي في العالم غير الإسلامي؟!
لقد كبرت وأنا أسمع العبارة أو الحديث الذي يقول إن (الزواج هو استكمال لنصف الدين). ولا أستطيع التحقق من صحة هذا الحديث، ولكن سماع هذا الحديث يجعلني أشعر بأن هناك نقصاً في إيماني وديني، وهذا ما يفهم منه أساساً. وأوقن أن كل ما يأتي من عند الله نعمة، وأنه إذا لم يكتب لك هذا فيجب ألا ينعكس على طاعتك في دينك الإسلامي. فخلاصة الأمر إن الله يرى أن ذلك هو الأصلح لك.
والزواج ـ في حد ذاته ـ هو (أداة) وقائية تمنع الناس من السعي وراء رغبات جنسية خارج إطار الزواج، وارتكاب ذنب يعد من الكبائر في الإسلام. ويتم تشجيع المسلمين على الزواج في آيات كثيرة في القرآن الكريم. وحيث أن الزواج مُمارسة حياتية فيها جوانب إيجابية وجوانب سلبية؛ فإن الله عز وجل حذر من وجود الجوانب السلبية في هذه الممارسة، وأرشد الناس الى طريقة معالجتها كما في قوله عز وجل: بِسْم الله الرحمن الرحيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التغابن: 14].
أنا من عائلة لا ترى أن الزواج ضروري للمضي في الحياة. وفي الواقع، أنا ترعرعت في وجود خالة وعمتان اخترن عدم الزواج؛ لذا لم أكن أرى أن الزواج هو عنصر أساسي في الحياة أو (حلم) بعيد المنال.
إن رؤية العديد من النساء غير المتزوجات والمستقلات من حولي ألغى أي فكرة حول كوني مختلفة أو محرومة؛ لأن الزواج ليس اختياراً للجميع سواء كنت معاقاً أم لا، بل إن الزواج ـ مثل أي ميزة من هذه الحياة ـ هو اختبار مماثل للبقاء عازباً. إن عمل الإنسان هو المهم حقّاً، ويلعب الدور الحاسم في الزواج أو عدمه، وهو المؤثر في كونه (نصف الدين) أو أن بعض نتائجه تُمَثل مصدر خطر كما يحذر القرآن الكريم: بِسْم الله الرحمن الرحيم (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التغابن: 15].
يمكننا البحث عن الثروة أو العمل أو الزواج أو أي فرص أخرى في هذه الحياة، ولكننا لن نحصل في النهاية إلا على ما كتبه الله لنا، ويجب على المؤمن اتباع قلبه ليكون دليله، كما أننا يجب ألا نصدر أحكاماً مطلقة بأن هذا الأمر جيد والآخر سيء؛ لأننا لن نعرف أبداً حقيقة الأمور. فمن المنطقي أن نقوم باختيار شخص يكون قريباً إلى طريقتنا في التفكير والشخصية والمعتقدات. ومرة أخرى، نقول إن القرآن لا ينص على أننا يجب أن نتزوج من أشخاص مماثلين لنا، بل على العكس من ذلك فإنه يشجعنا على الاختلاط مع أناس من وسط اجتماعي مختلف، في حين أنه لم يذكر ـ على وجه التحديد ـ الأشخاص ذوي الإعاقة، ولكن الفكرة التي لا تزال سائدة في موضوع الزواج ـ والمتمثلة بتوفر المال والقدرة والمظهر ـ لا ينبغي أن تكون المعيار في اختيارات الزواج، فقد يتزوج الصالحون أو الصالحات من خدمهم من الذكور والإناث، وإن كانوا فقراء فسيغنيهم الله من فضله. يقول الله عز وجل: بِسْم الله الرحمن الرحيم (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [النور: 32].
فالمجتمع هو الذي يُملي القواعد وينمي للأسف الشعور بالتفوق لدىٰ الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم (أفضل) من الآخرين. فالعالم الإسلامي لا يقبل الأشخاص اُو العلاقات ذات الاختلاف، وهذا الفعل يتنافى مع تعاليم الإسلام الأساسية، وهناك بعض الأفراد يبدو وكأنهم يتقبلون هذا السلوك أو يتغاضون عن مثل هذه المواقف، في حين يجب عليهم رفضها والعمل على تغييرها من خلال التعليم.
وكثيراً ما نرى بعض الناس الذين يدعون أنهم يسيرون على خطى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، غير أنهم انتقائيون فيما يتبعون؛ فهم غالباً ما يتناسون ـ على سبيل المثال ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة أكبر منه سنّاً وأغنى منه وسبق لها الزواج من قبل. الأمر الذي نادراً ما نراه يحدث فِي مجتمعنا وفي عصرنا الحالي.
إن سلوك النبي صلى الله عليه وسلم تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة هو مثال يحتذى به، وكذلك التاريخ الاسلامي وسجله الحافل بالأمثلة العديدة على الأشخاص الذين يعانون من أنواع مختلفة من الإعاقة وكانوا من ذوي الاحتياجات الخاصة، ومع هذا فقد كانت لهم مكانة بارزة في المجتمع، فنرى شخصية مثل عبد الله بن أم مكتوم، فقد كان ضريراً وكان من الأشخاص الأوائل الذين دخلوا الإسلام، وكان مخلصاً للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد تم اختياره ليكون واحداً من المؤذنين، وفي عدة مناسبات وضعه النبي صلى الله عليه وسلم مسؤولاً عن المدينة المنورة فترة غيابه. هذا مجرد مثال واحد يبين لنا كيفية التعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة في الإسلام؛ فإعاقة عبد الله بن أم مكتوم لم تحد من قدرته على القيام بواجباته.
وهناك العديد من حالات الزواج من أشخاص لهم نفس الخلفية الثقافية في المجتمع وعلى نفس درجة المقدرة، ومع هذا ينتهي بهم المطاف إلى المعاناة من العنف المنزلي ومن إساءة المعاملة، وبالتأكيد في مثل هذا السيناريو سيكون خيار عدم الزواج هو الأفضل. فاختيار شخص مماثل لك لا يضمن لك السعادة، واقتراح أن أفضل وسيلة لزواج الأشخاص ذوي الإعاقة هو أن الأصم يتزوج من أصم والمكفوف يتزوج من مكفوف؛ بدعوى أنه سيكون من الصعب مثلاً على الصم التواصل مع غير الأصم؛ فهذا الاقتراح غير مقبول؛ فإذا كنت تحب شخصاً أصماً فتعلم لغة الإشارة ولا ينبغي أن تكون هذه مشكلة أو عائق أمامك، ففي الواقع حبك سيجعلك تفعل أي شيء للدخول إلى عالمهم.
وأصدقكم القول إنني ـ أثناء كتابتي هذا المقال ـ حاولت أن أفكر كيف سيكون شكل زوجي المثالي، وهذا شيء لم أفكر به من قبل. ولكني مهما حاولت تصور شخصيته لن أقدر أو أستطيع تخيله، فقد يكون رفيق دربي شخصاً معاقاً وقد لا يكون، ولكني لن أجعله مقياساً في أحكامي.
وأنا أدرك أن التقاليد والثقافة تلعب دوراً في قضية زواج الأشخاص ذوي الإعاقة، خاصة مع وجود بعض المفاهيم المضللة مثل أن الشخص المعاق قد لا يرزق بأطفال أو أنه إذا رزق سيكون الطفل معاقاً. فنصدق هذه الافتراءات وننسى أن هناك مخاطر في كل شيء في الحياة، فمن يستطيع أن يجزم بأن هذا الشخص السليم سيحمل طفلاً غير معاق أو لا؟!
وهناك مفهوم مجتمعي آخر وهو أن الزواج يعتمد على شخصين أحدهما يقدم الدعم والآخر يعتني بالمنزل وما إلى ذلك؛ لهذا فإن الناس يعتقدون أنه مهما كان الدور الذي ستلعبه فالشخص المعاق قد يكون محدوداً في كليهما. في الزواج يكمل الناس بعضهم بعضاً. ومن يستطيع القول إن ارتباط شخص معاق وآخر غير معاق لا يكملان بعضهما؛ فيمكن أن يكون أحدهما قويّاً جسديّاً والآخر قويّاً عاطفيّاً وعقليّاً. مجتمعنا يحتاج إلى أن ننظر إلى ما هو أبعد من المظهر وقبول الناس الذين لديهم قدرات مختلفة.
التقى النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة اشتكت له من أنها تعاني من مرض الصرع، وأعربت عن قلقها من انكشاف جسدها خلال إصابتها بهذه النوبات. فعرض عليها النبي محمد صلى الله عليه وسلم خيارين، فقال لها إنه يمكنه أن يدعو الله لها بالشفاء، أو أن يكون صبرها على هذا المرض مدخلاً إلى الجنة. فاختارت الصبر والاستمرار في تحمل حالتها المرضية، لكنها طلبت أيضاً من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو من الله ألا يكون جسدها عرضة للغرباء.
هذه القصة تسلط الضوء على ثلاث نقاط مهمة؛ أولها: أنها توضح قيمة صبر الشخص صاحب الإعاقة. والأهم من ذلك أنه يؤكد على حق الأفراد في لفت الانتباه إلى احتياجاتهم الخاصة والتحدث عن حقوقهم كمسألة من مسائل العدالة الاجتماعية. وأخيراً: تشير القصة إلى الدور المهم للدعاء والدعم الذي يتوقع من المجتمع الأوسع أن يقدمه للفرد.
وبالرغم من أن التعليم هو المفتاح الذي جعل الحضارة الإسلامية واحدة من أعظم الحضارات، فقد سقطت ـ مع الأسف ـ فريسة لوجهات نظر مضللة وللتحيز والتعاليم الثقافية والتقليدية الخاطئة. فإذا كان كل شخص يجب أن يتزوج من شخص مماثل له عندها يجب أن نعود الى الوراء وإلى أيام الفصل العنصري! إذن أين هو التعايش؟ وهل هذه هي المساواة؟!
الأسترالي نيكولاس فوجيسيك مع زوجته وابنه
المصدر:
http://disabilityhorizons.ae