أمل أسعد لايقة، عضو في مجلس إدارة المقعدين وأصدقائهم، تعمل في مكتبة لبيع القرطاسية وتأجير الكتب، وليست حاصلة على أية شهادة دراسية، وهي من مواليد اللاذقية للعام 1972 لها في الشعر (خيوط الفجر، ملاك العودة، حاسة الحب، وثمة ما ينتظرك)، وقصة قصيرة بعنوان “مسافات الحلم”. عبر هذه الأسطر تحكي قصتها.
في عمر خمس سنوات تعرّضت حادث سيارة أدى إلى تغيير مجرى طفولتها، تنقلت في مستشفيات اللاذقية لإجراء الفحوص اللازمة فاستدعت النتائج نقلي إلى دمشق، حيث تبين أنيّ مصابة بانضغاطٍ في النخاعِ الشوكي، ويلزمني عمل جراحي في ظهري.
فشل العملُ الجراحي لينتهي المطاف بي إلى شلل في الأطراف السفلية، يومها أكدَّ الأطباء لوالدي أن السفر بعد العمل الجراحي مضيعةٌ للوقت.
لم يكن ذهابي إلى المدرسةِ سهلاً، خصوصاً من دون كرسي متحرك، بقيت حوالي سنتين أذهب على كتف أمي وكنت أخضع لعلاج فيزيائي مكثف على أمل ألا احتاجَ إلى كرسيٍ متحرك بل إلى جهازٍ أضعهُ في قدمي، وعندما تبين عدم جدوى العلاج جاء الكرسيُ ليصبحَ عصبَ حياتي وحريتي، إلا أنني لم أتابع في المدرسةِ تعليمي بسبب صعوبة الطريق في القرية ووجود درجٍ عالٍ، وعدم توفر المُرَافِق اليومي في ذلك الوقت، وكان إخوتي يدرسون خارج القرية.
نِلتُ الشهادةَ الابتدائية ولكنَّ وعيي المُبكرَ لوضعي جَعلني أنتبهُ إلى أنني يجب ألا أكونَّ عادية، وأن أسعىَ لتعويض فقدان دراستي بالتثقيف لذاتي، ومن هنا بدأت رحلتي مع المطالعة، ومتابعة كل ما يخدم ظروفي وتغييرها نحو الأفضل. كانت أمي وإخوتي يوفرون لي الكتب والمجلات ولم يبخلوا عليّ لا بوقتهم ولا بجِهدهم لمساعدتي في كل ما أطلب. لم أشعر بأني مختلفة إلا بطريقة تفكيري، حيث كنت محاطة بأصدقاء أكبر مني يسردون لي قصصهم ومشكلاتهم وأسرارهم ولطالما كنت مستمعة جيدة لهم، إلا أنني كنتُ شديدة التأمل وكثيرة الصمتْ في بداية وضعي، فثمة هاجس يقلقني وثمة أشياء في داخلي تستفزني ولم أكن أفهم ما هي بالضبط.
عَمِلتُ لسنوات أنسجُ الصوفَ للكبيرِ والصغيرِ في القرية، لأساعدُ أمي مادياً، وقد لفت عملي انتباهَ من هم خارج القرية، إضافةً إلى ذلك كان الكتاب بجانبي لا يفارقني والراديو يومها كان مخرجاً لي ومفصلاً مهماً في متابعة الأخبار الخارجية. كنت أعملُ وأحلم وأقرأ كل ما يقع تحت يدي حتى جاء صديق أخي يوماً إلى بيتنا وقال لي: لم يبق في مكتبتي كتاب لم تقرئيه، فأجبتهُ بعفوية: إذاً ما أصغر مكتبتك، ومن يومها أدركت أن الأدبَ يسحرني ويدخلني في عوالمه، فتركت شغل الصوف وتفرغت للمطالعة والكتابة حيث اكتشفت أن الكتاب هو الحياة.
وبما أن الإعاقة سلمتني مفتاح الحياة، فلماذا لا أقبل عليها وألِجُ بواباتها بالبوح، كانت فترة المراهقة غنية بكل شيء.. الكتابة غزيرة.. المشاعر متدفقة.. الأصدقاء من حولي بشكل دائم، انطلقت في الحياة كمن يريد أن يقبض على الريح في لحظة.. الكرسي ساعدني على تجاوز أمور كثيرة وجعل من اختلافي مع الآخر إئتلافاً من نوع آخر، ورغم أني تعرضت من المجتمع لنظرات واخزة، فإنها كانت تعزز ثقتي بنفسي وتزيدني إصراراً على أن أواجه الناس وأخرج إليهم ليعتادوا علي كمقعدة على كرسي، وليعيدوا النظر في أنفسهم.
رغم كل الصعوبات والآلام ومحاولة التكيف والتأقلم ومتابعة النهار مع نفسي ومع محيطي ومع مجتمعي، كانت الكلمة تترفع وتسمو، وكان القلم يشمخ. قرأت لشعراء وكتاب عرب وأجانب أغنوا عالمي الذي كان يضج بالأفكار ويستعذب اللغة، تسكعت مع محمد الماغوط بعفوية شعره واتساع شوارعه وأمكنته.. خدرتني رائحة اللوز في شعر محمود درويش، وقرأت أدونيس وممدوح عدوان، قرأت علم النفس والفلاسفة، كان يجب أن أتغذى من كل أرض وبستان وفكر حر يتمتع بعقلية حرة حقيقية.
تصالحت مع الحياة والألم والمرض، وعقدت صداقة مع كل شيء حتى مع الذين سببوا لي الخيبات وسببوا مشقة مضاعفة لهزم شفقتهم والتجريح في عطفهم وعاطفتهم.
كان ديواني الأول «خيوط الفجر» عام 1997 نقلة نوعية لي ودخلت عالم الأمسيات والندوات الأدبية والشعرية في المراكز الثقافية وجامعة تشرين.. كانت الأحلام تتنامى، وكان ثمة من يثبط الأحلام إلا أن نفسي العامرة بالحياة والإيمان بأنني أشق طريقاً صعباً، جعلتني أحلق بدفء وحب وشاعرية.
ثم أصدرت «ملاك العودة» عام 2002 وكان الأهل والأصدقاء عوناً لي ومعي، وكان الحب لديّ شعوراً يجعل الحواس متيقظة دوماً من أجل العمل والاجتهاد وإنصاف الذات.
رحلة الأحلام لم تنتهِ. كُنت أفكر في بناء مكتبة ثقافية في القرية وتحقق الحلم عام 2008 وكانت إحدى المفاصل المهمة في حياتي وما أزال أهجس باستمرارها وتوسيعها.
مؤخراً تمت الموافقة على مجموعة قصصية جديدة بعنوان (بلاغ كاذب)، وما يزال الحلم مستمراً بنتاجات جديدة تليق بالذائقة الأدبية، وما يزال الوعدُ بعتمةٍ أقل ظلاماً وبؤساً أقلَّ قسوة وآلامٍ أقل وخزاً، وما يزال الوعد بزمنٍ أكثر حرية.