على هامش الاحتفالات السنوية التي تقيمها إدارة جائزة السقيلبية (جائزة المرحوم المحامي سهيل الديب)، لتوزيعها على المتميزين والمتفوقين من طلاب الشهادة الثانوية، تجولت أتأمّل الواقع الاجتماعي المتردي في غياب العناية بتربية أبنائنا، أبحث عن متميز في اهتمامه الجاد واعتماده على ذاته في تطوير حياته وتقدمها، ويصلح أن يكون قدوة لأبنائنا في تطوّر وتطوير بنيتنا الاجتماعية.
لم أر من هو أجدر من ذلك المعاق الذي تجاوز عقده الخامس، وتجاوز إعاقته في تحقيق معجزة التحدي، يطوّع المستحيل في قوة الإرادة وتصميمها، رؤية حدت بي لأروي لكم بعض التفاصيل من سيرة هذا الشخص المعاق.
حين اصطفيته متميزاً وقررت كتابة حكايته، اتصلت به أستوضح بعض التفاصيل عما أجهله في حياته.. أرسل لي رسالة مؤثرة كتبها بقلمه، لم أر بداً من حقكم في الاطلاع عليها، ولو اقتضى أن ننشر الحكاية في أكثر من مقال أو حلقة إن جاز تسميتها.
لقد كتب مواهب دعبول يقول: «كنت كباقي الأصدقاء، حياتي كحياتهم، وأفكاري من أفكارهم، وأحلامي من أحلامهم، كل منّا يتطلع وينتظر متى ينتهي من دراسته الثانوية، حتى يلتحق بإحدى الجامعات أو المعاهد، للحصول على شهادة تؤهله للعمل في إحدى الدوائر الحكومية، كي يستطيع مساعدة أهله وبناء حياته الخاصة.
«لكنّ قدري لم يسمح لي بتحقيق أحلامي، فقصف عمري منذ بداية حياتي بعد أن حصلت على شهادة الدراسة الثانوية، وأنا ذاهب لمتابعة دراستي في عاصمة بلدي دمشق في الأول من كانون الأول / ديسمبر 1975، تدهور الميكروباص الذي كنت فيه، نتيجة طيش السائق، ما أدّى إلى انكسار عمودي الفقري، وأصبت بشلل نصفي سفلي.. أعادني أهلي إلى المنزل، بعد أن أعطاني الأطباء حكمهم القاسي عليّ بأنه لا أمل في شفائي. و في دار أهلي بدأت أعيش حياة جديدة غريبة علينا كل الغرابة، ممزوجة باليأس والمرارة والألم والحرقة على هذه الحياة، وقد حاولت الانتحار أكثر من مرة، لكني فشلت في ذلك كون والدتي كانت بالمرصاد، ومنعتني من التصرف بأي تصرف طائش.
«صرت أنتظر الموت مخرجاً وملاذاً لي، كون حياتي توقفت حيث سمّرت في فراشي، فلم يكن باستطاعتي الانتقال خارج فراشي، كوني لا أملك كرسياً متحركاً، فإنني من أسرة فقيرة كادحة، والدي كان يعمل ليل نهار كي يستطيع إعالة أشقائي التسعة وهم جميعاً أصغر مني، وجميعهم مستهلكون كونهم في المدارس يتابعون دراستهم.
«بمساعدة والدتي صرت أتأقلم مع حياتي الجديدة، كانت والدتي كل شيء في حياتي، كان كل شيء يقع على عاتقها، كانت تقدم لي الطعام قبل أن تضع لقمة في فمها، وتعتني بنظافتي على أكمل وجه، دائماً ثيابي وأغطية فراشي نظيفة، تسهر طوال الليل بجانبي عندما أكون مريضاً، كانت تواسيني ليل نهار وتغمرني دائماً بعطفها وحنانها، كانت هي كل شيء في حياتي.
«صرت أفكر بنفسي: هل كل المعاقين يعيشون عالة على أهلهم ومجتمعهم مثلما أعيش!! ألا يوجد من يساعدهم للانطلاق إلى الحياة ثانية!! هل كان حكم الأطباء في بلدي صائباً!! ألا يوجد علاج لمثل إصابتي في أمريكا أو في الدول الأوروبية (بريطانيا فرنسا ألمانيا)!! وهل يمكن لإنسان مثلي من الطبقة الفقيرة الكادحة الذهاب للعلاج هناك؟
«لا ــ لا ــ لا يمكن ذلك!!.. هنا بدأت أفكر في الاتحاد السوفييتي (سابقاً) والدول الاشتراكية، حيث أن هذه الدول فيها التعليم والعلاج والسكن وغيرها من أمور الحياة الأساسية مجاناً».
انتهى النصّ الحرفي للجزء الذي اقتطعته من رسالته، وعلى الرغم من أنّي أعرف الكثير من معاناة صاحب الرسالة، لكنّها ذكرتني بمشهد لفت انتباهي فيما بعد عصر يوم من أيام أيلول (سبتمبر) الحارة عام 1992 كان فيه الغسق يلون الأفق، ونسمات خريفية تحرر أجواء الغروب من قيظ حار، كان حينها كرسيّ متحرك يملؤه جسد معاقٍ في ريعان شبابه، جسد قعيد يجلس في كرسيه على رصيف شارع المشوار، يتأمل حراك الصبايا الحسان، في رتل متواصل لا يتوقف سيره ذهاباً وأياباً على ذلك الكورنيش الجميل.
بدون أن يراني، وقفت أتأمّل تأمّله لتلك الصبايا في متابعته لهم بنظراته، وكيف يعاود استقبال وجوه جديدة بنظرات جديدة، تعكس على وجهه ملامح صور يتناوب فيها الإشراق والتشاؤم، بين متابعة وأخرى لتلك الحسناوات بأزيائهن الفارهة الجميلة. وكانت رسائل نظراته لهنّ يتمازج فيها الازدراء مع ابتسامة ساخرة لتلك المتعالية أو غير المبالية، وكان الأكثر أذى لمشاعره، مشهد يراه في تلك التي تتأمله بنظرات مشفقة.
تقدمت واستوقفته حين حرك المقعد بساعديه للعودة إلى المنزل، تلقاني بابتسامة بائسة، وأجاب إنّي هارب من نظرات إشفاق تحسن بها فتاة في التفاتة نحوي، ومن فتاة تتجاهلني بغطرسة جاهلة، واستطرد يعاتب ابنة السقيلبية قائلاً: ليش ـ ليش يا بنت السقيلبية هذا الشموخ بهذا الرأس الفارغ المحتوى!
ليس هذا الشاب غريباً عني، فأنا أعرفه منذ طفولته، عرفته منذ كان صغيراً بحكم ترددي إلى منزل والده صديقي، إنه بكر والديه، ولد عام 1957 حمل اسمه من تيمّنٍ والده واعتزازه بالأديب الكبير الراحل مواهب كيالي، كاتب زاوية (خيط من نور) المشهورة، في صحيفة النور في خمسينات القرن الماضي.
كان مواهب الصغير هادئاً متميزاً بين أترابه من أطفال الحارة، في مواظبته على المدرسة والدراسة، بدون انقطاع في اجتهاده وفي تحضير دروسه ووظائفه. وكان يملأ فراغ العطلة الصيفية في المجدي من المطالعة والعمل، وغالباً ما كنت أشاهده في الشوارع يدلل بأعلى صوته على إحدى مواد بضاعته التي يتاجر بها، وهو يحملها على كتفه وساعديه من براد «البوظة» أو «سطل العرانيس» أو طبق «المعلل».
لقد أنهى المراحل الأولى الثلاث للدراسة ما قبل الجامعة، ونال الشهادة الثانوية عام 1975 رغم الانتكاسة الصحية التي ألمّت به وحالت دون تحضيره لامتحاناتها.
في الأول من ديسمبر / كانون الثاني 1975 كان مسافراً لمتابعة دراسته في مدينة دمشق، لكنّه لم يصل، بسبب الحادث الذي تعرّض له الباص الذي ينقله، حادث سبّب له أذية في الحبل الشوكي أدى إلى شلل كامل للنصف السفلي من جسده.
هل قُدّر لهذا الفتى النجيب أن تصادر حيويته! ويتحوّل معاقاً قعيداً بسبب رعونة سائق جاهل! هل هذا هو جزاء الفتى الذي أدرك مبكراً وضع أهله المتواضع مادياً، وعمل بائعا جوّالاً حاملاً بضائعه على كتفه، ليخفف عن والديه أعباء نفقاته!
فجأة بدون تمهيد ينعطف تاريخ الفتى بشكل حادّ ويتغير كل شيء في حياته، ليحلّ عنده الثبات مكان الحركة، والألم مكان الراحة، والموت النصفي مكان الحيوية، والأشدّ صعوبة عليه أن يتحول عبئاً على ذويه، بدل أن يساعدهم ويشاركهم في تحمّل أعباء الحياة.
من سرير الألم والانزواء يكتشف أنه أصبح غير موجود، وهو يرفض غياب وجوده، يكتشف أنه تحوّل مستعطياً، وهو يرفض أن يستعطي، واكتشف أن الكلّ يحسن إليه، وهو يرفض العيش تحت الإحسان. فكان قراره الصعب، قرار إرادة الفتى الحقيقي بأن عليه أن يكون موجوداً.
نعم تبنّى القرار الصعب، قرار الإرادة وتصميمها في تطويع المستحيل.
الإرادة والكتاب والمذياع، ثلاث كيانات توحدت في كيان طريح الفراش، لتنجب المواهب للفتى المعاق مواهب، ويبقى كتابه مفتوحاً، ومذياعه ساهراً ليل نهار يتابع مخابر الأكاديميات الطبية، إلى أين وصلت في اكتشاف ما يعالج الحبل الشوكي لإعادة الحركة لأطرافه السفلية، وقد أتاحت متابعته للمذياع والكتاب أن يشترك في عدة مسابقات دولية، حاز على الجائزة الأولى لأربع مسابقات عالمية، وهي رحلات مجانية إلى كل من تشيكوسلوفاكيا (سابقاً) والاتحاد السوفييتي (سابقاً) وأوزبكستان،
وبسبب ضعف الوضع المادّي لعائلته طلب من تشيكوسلوفاكيا (سابقاً) تحويل الجائزة التي هي رحلة مجانية مدتها خمسة عشر يوماً لحضور اسبارتكياد براغ إلى كرسي متحرك. أمّا جائزة السفر إلى موسكو فكانت هي الأهم عنده، لأنه يعول عليها الأمل في معالجته وشفائه، وقد تمّ تنفيذ الرحلة في الشهر العاشر من عام 1984، وبدلاً من إقامته مدة الزيارة المخصصة للجائزة خمسة عشر يوماً، بقي هناك تسعة أشهر متواصلة يتعالج في مشافيها. دخل خلالها إلى مشافي الأشخاص المعاقين في موسكو. وكم كانت خيبته مؤلمة حين عرف أنّ التأخير في إجراء الجراحة لتخفيف الضغط عن الجزء المصاب في الحبل الشوكي، أدّى إلى تموته في منطقة الإصابة، وانقطاع تواصله مع الجهاز المركزي للأعصاب في الدماغ.
في إحدى مشافي الأشخاص المعاقين تعرّف على فتاة فنلندية معاقة، تخدم نفسها بنفسها، وتعمل في أحد مقاسم الهاتف فيه براتب مضاعف، عرضت عليه فكرة الارتباط بعقد زواج يجمع بينهم في العيش والعمل المشترك. على الرغم أن الفكرة أعجبته، لكنه فضّل أن يعود إلى مسقط رأسه في بلده ليثبت أنه لا يزال موجوداً.
عاد إلى الوطن مصطحباً معه شريكه لخوض معركة المصير، هذا الشريك كان كرسياً متحركاً حديثاً، أهداه له القائم بأعمال سفارة اليمن الجنوبي (حينها) في موسكو آنذاك.
اختيار مهنة كاتب استدعاء كان اختيارا موفقاً، لكنّ الصعوبة في انتقاله من منزل والده إلى موقع عمله في دار القضاء والحكومة، بسبب المنحدر الذي يفصل بينهما اقتضى الحاجة إلى وجود مرافق إلى جانبه، في ذهابه إلى العمل وعودته منه.
كان الفتى مجتهداً في عمله، يبدأ دوامه ما قبل دوام الدائرة إلى ما بعد نهايته، منطلقا بطاقة زاخرة في الإبداع والعلم والعمل، منظماّ علاقته مع أهدافه وفق تجانس أولويتها مع دخله، مواكباً العصر في تطوير مكتبه بالأدوات الحديثة من آلة كاتبة وآلة ناسخة، مبدعاً في تأليف دليل خاص لهاتف مدينة السقيلبية، وهو الآن يعدّ تحديث نسخة جديدة لطبعة خامسة يصدرها قريباً، بعدما نفدت الطبعة الرابعة من الأسواق.
لقد باتت مهمة تحرير وجوده من الحاجة إلى مساعدة الآخرين، تلاحقه في الحاجة إلى منزل موقعه على أرض منبسطة، يسهل تواصله في عمله، ويحرر أشقائه من أعبائه عليهم.
بين البداية في عمله عام 1985، وانتقاله إلى سكنه الجديد عام 1990 خمس سنين من المتابعة والعمل الجاد، أنجز خلالها جزءاً من المخطط المعد لبناء منزل جديد على أرض منبسطة، يتوافق بمزاياه مع بيوت الأشخاص المعاقين، كان طيف المستحيل الذي يعترض طموحات الفتى لا يبارح خياله، فهو يعرف أنّ الحياة رسالة على عاتق الإنسان مسؤولية إيصالها إلى الأبناء، لحماية استمرارها من الانقراض، ويعرف أنه الإنسان الذي أفقدته الأقدار تكافؤه مع هذه المسؤولية.
شخصية مواهب مركبة من الإرادة والعلم والعمل، مصداقية التزامه عالية، وصداقته مع وسائل العلم والإعلام لم تنقطع، تتشكّل أسرته من ثلاثة عناصر يلازمون سريره، الكتاب والصحيفة والمذياع، يستمرّ اجتماعهم يومياً بعد نهاية الدوام الرسمي إلى بدايته في صباح اليوم التالي.
في اجتماع هذه الأسرة ينشط الدماغ، ويتسع الخيال، ويتبلور الطموح في موضوعية الأحلام، تتميز هذه الشخصية بنزعتها للتحرر من المراوحة بالماضي الذي يحجب عنها رؤية آفاق المستقبل الذي يسكن خياله في طموح يتنامى بذهنٍ متقد بالعلم والمعرفة، ذهنّ يتخيّل، يحلم، يقرر، وينفذ ما يجب تأسيسه لاستقبال المستقبل الذي يسعى إليه.
لا أحد مِنَ الأشخاص المعاقين أجدر من «مواهب» صاحب الإرادة التي لا تصدأ، «مواهب» الذي يعتمد العلم بوصلة دروبه التي يسلكها، في العلم الذي استعاد الأمل في إمكانية إيصال الرسالة إلى الأبناء، وبالعلم اتخذ قراره في بناء أسرته حرصاً على استمرار بقائه.
وبدأ سعيه وتفتيشه عن فتاة تتعاون معه لتكوين الأسرة التي يستمر فيها بقاؤه، أين هي تلك الفتاة التي تتقدم فيها الروح على الجسد!! لا شك إن وجدت ليست هي أقلّ من قديسة، تغني الحياة في تبتلها من أجل حماية استمرارها.
لم ييأس رغم الخيبة في ابنة السقيلبية، تلك الابنة التي أدانها بالغباء في تجاهلها أن القطار سوف يفوتها، معبراً عن احتجاجه على جهلها، بانسحابه عن رصيف الكورنيش، في خريف 1992.
رغم أن فكرة زواجه لم تنل قبولاً من أحد، حتى أنّ أسقف الكنيسة الأرثوذوكسية في المحافظة لم يسمح بذلك، لكنه لم يقنط ولم ييأس، لأنه تمرّس على تلقي الصدمات، واستمر متابعاً سعيه ليحقق التعايشٍ المشترك بين زوجين متضامنين في بناء أسرة المستقبل تحت سقف منزله الجديد.
بعد ما علم من معاقة «سقلوبية» تقيم في دمشق، أنه تمّ تأسيس جمعية سكنية للأشخاص المعاقين جسدياً، شدّ الرحال إلى دمشق لينتسب إليها، وقد تعرّف خلال رحلته على الكثير من المعاقين هناك، وتطورت علاقته مع معارفه وأصدقائه منهم إلى مستوى تبادل الزيارات بينهم، وتبيّن له أنّ الكثير منهم متزوجون، والبعض من نسائهم غير معاقات. في إحدى الزيارات نصحته زوجة صديقه غير المعاقة، بالتعرف على شابة ريفية مهذبة مقيمة في دمشق من أجل العمل.
بواسطة هذه السيدة تمّ لقائه مع الآنسة انعام لبّاد وهي من قرية برشين، تاريخ ولادتها 1960 وحيدة والديها، لها ثلاثة أشقّاء ذكور، تحمل الشهادة الثانوية علمي، مقيمة في دمشق تعمل عاملة في شركة وسيم للخياطة. كان الاجتماع ودّياً، وكان الحرج فيه قاسياً على المعاق أن يطلب يد شابة غير معاقة، لكنّ كلام السيدة زوجة زميله بدد الحرج، عندما تحدثت عن مقدار سعادة المرء في شعوره بمتعة العمل الإنساني، خصوصاً حين يوظف الجسد في خدمة الروح.
«انعام» تقبلت الفكرة وتحفظت على الإعلان عنها قبل تنفيذها وتوثيقها كنسياً ومدنياً، تحسباً لمعارضة ذويها. وكان وقع قبولها على نفسه، بمثابة من أحرز نصراً ملأه بالفرح والسعادة وأمده بالقدرة على التغلب على الصعاب، شعور عزز ثقته بنفسه وبسلامة الهدف الذي حققه في تطويع المستحيل الذي يعيق طموحاته، حتى بات المستحيل يترنح تحت عجلات مقعده المتحرك منطلقاً باتجاه الدوائر الدينية والمدنية، ليثبت زواجه في تصديق وثائقه الرسمية من مديريها.
كان وحيداً، وكانت الدروب وعرة والمسافات بعيدة، والتعتيم على سرية نشاطه من المهام الصعبة والشاقة، إنه بحاجة لمن يساعده في إزالة الموانع التي وضعتها الكنيسة أمامه، فكان لابدّ أن يبوح بسره إلى صديقه والشاهد على زواجه (إشبينه) السيد حنا رستم (أبو سومر)، الذي رافقه إلى مصيف كفر سيتا للأشخاص المعاقين، وشكا أمره للأب العازاري بولص سليمان رئيس أسرة الإخاء السورية، وتقبل الأب الفكرة وباركها بعد أن تحقق من سلامة الوثائق المدنية، ومن قبول الفتاة بدون ضغط أو إكراه. وتمّ توثيق القران الذي حرر حياته من الوحدة القاتلة، بشريك أنيس، أليف، مطيع، مهذب، متعاون.
سنتان من التعاون والعمل المشترك في مكتبه، حولاه إلى دائرة تقدم المتنوع من الخدمات: كاتب استدعاء،. بائع طوابع،. تجليد هوية،. تصوير وثائق ومستندات،. آلة كاتبة،. كمبيوتر، إلى جانب أنه كان أول خبير إرثي مكلف في السقيلبية. سنتان حققا فيها تطوراً واستقراراً في أوضاعهما المادية والاجتماعية، ما أهّلهما لاستكمال بناء مخطط منزلهما، والاتجاه نحو الهدف الأعلى في تمتين أواصر الأسرة بطفل يملأ عليهما حياتهما ويحمي بقاءهما من الانقراض.
بعد خمس محاولات فاشلة في تثبيت الحمل خلال خمس سنوات في سورية، نجحت السادسة في العملية التي أجرياها في عمّان العاصمة الأردنية، وانتصرت الإرادة بتحقيق الحلم في ولادة الطفل في شهر تموز (يوليو) من عام 2000 ليحمل اسم جده أبو مواهب (عبد المسيح دعبول) وفي شهر تموز (يوليو) الماضي من عام 2007، احتفلت الأسرة بعيد ميلاده السابع، وبتفوقه ونيله الدرجة الأولى على شعبته في الصف الأول الابتدائي.
سألت زوجته ما الذي أقنعها بالزواج منه! أجابت: «ثروته» التي توفر لنا السعادة في الحياة!! وهل أنت سعيدة؟ أجابت: ليس في الدنيا من هو أسعد منها، وعند سؤالها عن حجم هذه الثروة أجابت: أبو عبدو يختزن في رأسه أثمن الكنوز، ومنها يستمد القدرة على تحقيق أمانينا، في الكفاية التي تعبّر عن طموحنا بعيش متطور باقتناء جميع السلع المنزلية المعاصرة. وتابعت: مواهب يتميز لثقته بنفسه، واعتماده على ذاته، كرامته غالية عليه، لا يقبل من أحد أن يتجاوزه أو يتفضل عليه، ولديّ من مواقفه ما يدل على جرأته ومروءته وتواضعه.
كم هو كبير في موضوعيته وتواضعه، حين يعلق على مؤخرة سيارته لوحة كتب عليها احذر أخي السائق، السيارة التي أمامك يقودها شخص معاق، لا أتخيّل أحداً من أمثاله يرفض أن يساعده أحد من أصدقائه في سفره إلى بلد لم يسبق أن سافر إليه من قبل، هكذا كان موقفه يوم سافرنا بسيارته السكودا إلى الأردن وحدنا لأجل زراعة الحمل.
لا شك أنّ حياتنا غنية بالكثير من المواقف المماثلة لهذا الموقف، أذكر ما لا أنساه من تفانيه واعتماده على ذاته، يوم أقعدني مرض الشقيقة بالفراش حوالي ثلاثة أشهر ونيّف، رفض مواهب جميع العروض التي قدمها الأهل والأصدقاء لمساعدته في خدماتنا المنزلية طوال هذه المدة، معتمداً على نفسه في إنجاز كل ما تحتاجه الأسرة من الخدمة في ميادين النظافة وطهي الطعام وتأمين ما يلزم شراؤه من الأسواق يومياً بعد دوامه. إلى جانب اهتمامه بواجباته الاجتماعية نحو ذويه وأصدقائه وجيرانه فيشاركهم أفراحهم وأتراحهم، كما يتابع الأمسيات العلمية والثقافية الهامة التي يقيمها مركز ثقافي السقيلبية.
تلا صمتها ابتسامة خجولة قالت بعدها: أرجو أن يُنظر إلى شهادتي أنها شهادة مجردة من أية غاية غير غاية الإعلان عن الحقيقة.
أكدت لها أني لا أشك في ذلك، بل أرى في سيرة هذا الشخص المعاق ملحمة حقيقية لرجل ذلل الصعاب وطوّع المستحيل بإرادته وتصميمه، وأنجز ما لم ينجزه غير المعاقين، في حين نشاهد الكثير من أمثاله يتسولون على إعاقاتهم!!
مدينة السقيلبية
إلى الغرب من مدينة حماة بـ 84 كم وعلى سيف الغاب تقع مدينة السقيلبية وهي نقطة عبور إلى الساحل السوري غربا، والمناطق السياحية ومصياف جنوبا، وآثار أفاميا وجسر الشغور شمالا، وقلعة شيزر ومدينة حماه شرقاً.
هناك عدة روايات لتسميتها بهذا الاسم منها:
السقيلبية كلمة آرامية كانت في الماضي (سقيلبو) وتعني المشاكسة والمعاندة. وكانت (سقيلبو) أثناء الحروب تشد أزر أفاميا وقد تعرضت المنطقة لزلزال مدمر أهلك الزرع والضرع والبشر، لجأ من بقي حياً من سكان (سقيلبو) إلى القرى والجبال المجاورة. سكنت (سقيلبو) بعدها جماعات بدوية لخصوبة أراضيها وتوفر المراعي فيها ولكن هذه الجماعات سرعان ما رحلت عنها بسبب وباء قاتل جلب لهم الموت السريع.
بعد استقرار المنطقة عاد سكان (سقيلبو) إلى قريتهم لإعادة بنائها من جديد وتحول اسمها إلى (سقلب) ومن ثم إلى (سقيلبية) حيث عادوا إليها لتعميرها وبنائها لا بالمشاكسة والعناد بل بالمحبة والسلام.
وهناك رواية تقول إنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى أسكولاب إله الطب عند اليونان، والتسمية الحقيقية مطمورة في بطن التل الذي شيدت بيوتها فوقه.
عدد سكان السقيلبية حوالي (30) ألف نسمة نهاراً و(31) ألف نسمة ليلا.
يعمل معظم سكانها بالزراعة، من أهم زراعاتها (الحبوب والقطن والشوندر السكري والخضار والكروم والزيتون)
للمهن الصناعية والتجارية اهتمامات لدى بعضهم.
تتبع لها أربع نواح إدارية (شطحة، سلحب، قلعة المضيق، الزيارة) مجموع قراها (130) قرية.
نسبة التعليم في المدينة مرتفعة (99%) فيها ثلاث مدارس ابتدائية، وثلاث للتعليم الأساسي وثانويتان للتعليم الثانوي (إناث + ذكور) وثلاث للتعليم المهني (صناعي، تجاري، نسوي) روضتا أطفال لنقابة المعلمين والاتحاد النسائي ومكتب للتوجيه التربوي ومركز ثقافي يمتاز بنشاطه والفعاليات الثقافية التي تروده بشكل دائم.
في المدينة شعبة حزب وشعبة نقابة معلمين وثلاث روابط للشبيبة والفلاحين والنساء وتحتل القضايا الوطنية والقومية المرتبة الأولى عند جميع أبناء المدينة، وهذا ليس غريباً لأنه إرث ورثه الأبناء عن الآباء والأجداد الذين عرفوا بوطنيتهم وعاشوا مراحل النضال لجلاء الفرنسيين إذ استقبل أهالي القرية آنذاك قائدين من قادة الثورة الثورة السورية (إبراهيم هنانو والشيخ صالح العلي) ووضعوا كل إمكانياتهم المادية والمعنوية تحت تصرف الثوار ولم يهادنوا الفرنسيين على الرغم من كل المحاولات الخسيسة التي بذلت لتفريق الصف الوطني.
أماكن الراحة متوفرة وفيها مقصف وناد لنقابة المعلمين وآخر سياحي على رابية خضراء يطل على سهل الغاب الخصيب بجواره كورنيش عريض مع غابة من شجر الصنوبر، تحمل اسم الشهيد (باسل الأسد) مدينة ملاهي، مسبح ومنتزه عين الورد، حديقة عامة.
فيها دار للحكومة ومبنى لمجلس المدينة ومؤسسة عامة لإدارة وتنظيم واستثمار الغاب ومديرية للزراعة وثلاثة مصارف (شعبي، زراعي، توفير) ومستودعات للعمران والاستهلاكية وصالات بيع للسندس والتجزئة ومخبز حديث ومركز هاتف آلي ودوائر للخدمات الفنية ومياه الشرب والكهرباء والتموين والمال والمساحة وصويمعات لتخزين الحبوب ومطبعتان.
تذخر المدينة بحركة ثقافية وعلمية كبيرة.
أول كتاب طبع فيها كان عام 1913 للمعلم الياس الضاهر يحمل اسم قطف الأثمار من حدائق الأبرار.
حملة الشهادات العلمية العالية كثر (أطباء 50، يضاف إليهم أطباء الأسنان 25، مخابر 4، صيدليات بشرية 52 زراعية وبيطرية 8 مهندسون أكثر من 100 دكتوراه وأساتذة جامعات 30 وعدد كبير من المدرسين والمعلمين يغطي مدارس المنطقة.
هناك اهتمام كبير بالثقافة من خلال المركز الثقافي الذي تحتوي مكتبته على أكثر 10500 كتاب ويعتبر المركز الثقافي من المراكز النشيطة بالنسبة للنشاطات المنفذ وهو مركز إشعاع فكري وثقافي من خلال المحاضرات السياسية والندوات الفكرية والتربوية والصحية وحلقات الكتاب والعروض المسرحية والأمسيات الأدبية والشعرية والقصصية والحفلات الفنية في المناسبات الوطنية والقومية.
علاقة تاريخية بمجلة المنال
يقول مواهب دعبول: في العقد الماضي كنت من قراء مجلتكم المحترمه مجلة المنال… وكنت أقرأ كل عدد منها يصلني.. وتيمناً بمجلة المنال ســميت المكتب الذي أعمل فيه بـ «مكتب المنال» وأرسلت القسم الأول من حياتي الى مجلة المنال.. وتم نشره في العدد 76 مايو عام 1994… ولكن مسيرة حياتي استمرت وأعطت أشياء جديدة.. ولذلك أختارني السيد جرجس كاترين مشكوراً من المميزين في العمل والارادة والتحدي في مدينتي السقيلبية وكتب عني مقالاً على موقع السقيلبية.. أرسله لكم كي تنشرونه على صحفات مجلة المنال.