بدأت حالة جوري تتحسن ببطء مع العلاج، فأصبحت قادرة على إبقاء رقبتها ثابتة لفترة أطول. ثم استطاعت أن تحرك رجليها بالتناوب، وهذا لم يكن ضمن إمكانياتها سابقاً. ثم تحسنت قدرتها على فرد يديها، وأيضاً لم تكن تستطيع ذلك سابقاً بسبب التشنج الناتج عن الشلل الدماغي… وما زالت جوري تتحسن وتتطور.
نعم لربما بشكل بطيء ولكن لله الحمد إنها تتطور وتتحسن. كنت أعرّض جوري لجميع التجارب والمعارف في محيطها والبيئة التي تتواجد فيها. كنت أخبرها عن أحداث اليوم وأشرح لها ما يدور حولها. كنت أعرفها على الألوان والأشكال والأرقام والحروف والأشخاص باللغتين العربية والانجليزية، ولكن التركيز الأساسي كان على اللغة العربية في أول أربع سنوات من حياتها… ولم تكن لفترة طويلة من الزمن تقوم بأي رد فعل أو إشارة توحي أنها فهمت أو حتى أنها مهتمة. وعند عرضها على رئيس قسم النطق والتخاطب في واحدة من أعرق المستشفيات في الوطن العربي ـ وكانت بعمر السنة والنصف ـ أخبرني بدون أن يقوم بفحصها أو التعامل معها: (يا سيدتي نحن نخبر أهالي الأطفال غير المعاقين أن ينتظروا لعمر الثلاث سنوات قبل المجيء لنا… فما بالك بالأطفال ذوي الإعاقة؟ أنصحك أن لا تتعبي نفسك قبل عمر الست سنوات… والله أعلم إذا استطاعت الكلام أو لا بعدها).
صراحة صعقت بجوابه… معلوماتي العامة تقول كلما كان التدخل أبكر كان أفضل للطفل، وهذا الأخصائي ذو الخبرة الطويلة يقول لي هذا الكلام. أحبطت لفترة من الزمن، ورجعت إلى الإمارات وأنا في حيرة من أمري هل أبحث عن أخصائي نطق لها أم لا. في هذه الأثناء استمريت بما كنت أقوم به مع جوري لأني أؤمن أنه واجبي أن أقدم لها كل المعارف التي تناسب عمرها.
شيئاً فشيئا بدأت جوري بالتجاوب والإجابة بالنظر جهة الجواب.. لم تكن قادرة على أن تؤشر بيدها أو أن تتكلم… كنت أعرض لها إجابتين أو خيارين بداية لأرى ماذا ستختار. ثم أصبحت عند سؤالها عن أمر ما إما تبتسم كعلامة قبول أو تكشر لتعبر عن الرفض. وكان سماع صوتها أو أن تتكلم حلماً بعيداً لا أدري إن كان سيتحقق يوماً أو لا.
لم نترك باباً لم نطرقه من أجل جوري. التزمنا بجلسات العلاج الطبيعي. قمنا بتجربة حميات ومكملات غذائية على أمل أن تخفف من حدة التشنج والشد العضلي وحتى حالة الإمساك المزمنة المترافقة مع الشلل الدماغي. كنا نجرب أي شيء منطقي ولا يعرض صحة جوري للخطر. ولجأنا أيضاً إلى الطب الصيني. بحثنا جاهدين عن أخصائي طب صيني لما قرأناه عن إمكانية هذا الطب في مساعدة جوري. بعد رحلة بحث متقطعة وجدنا أخصائية طب صيني رائعة. وقد ساعدت جلسات العلاج في التخفيف من حدة الشد العضلي الدائم لديها… وما زلنا نقرأ ونبحث ونجرب.
في عمر الثلاث سنوات ونصف تقريباً انتقلنا للعيش في ‘مارة الشارقة… وبدأت البحث عن أخصائي نطق لأني لم أقتنع بكلام ذلك الأخصائي ذي الخبرة الطويلة. الأخصائيون الذين التقيت بهم لم تكن لديهم الخبرة في التعامل مع حالات الشلل الدماغي… فلم أتشجع على تسليمهم جوري.
التحقت جوري بمدينة الشارقة للخدمات الانسانية بعمر الخمس سنوات. كان الهدف الأساسي من إلحاقها بها هو توفير جو اجتماعي لها حيث لم يكن لدينا معارف أو أصدقاء كافيين لتوفير ذلك لها. لم تكن هي قادرة على الكلام حتى وصلت عمر الخامسة والنصف. لم تكن تقول غير كلمة بابا قبل ذلك العمر… ولكن كانت قادرة على تقليد الأصوات.
انتظمت أوقات جوري بعد التحاقها بالمدرسة… وكانت كل يوم تستيقظ باكراً وهي متحمسة للذهاب إلى المدرسة. وأصبحت أكثر هدوءاً بعد أن وفرت المدرسة لها العديد من الأنشطة التي أذهبت عنها الملل وفرغت الطاقة التي لم تستطع جوري تفريغها في المنزل حيث كانت لا تستطيع الحركة. ووفر جو الفصل الدراسي فرصة لجوري لتعلم الصبر وأن هناك أطفالاً آخرين لديهم احتياجات توازي أهمية احتياجاتها ولم تبق هي مركز الاهتمام الوحيد كما كانت في المنزل. وقد أدى هذا إلى تعديل سلوكها وتعليمها تقبّل الآخر والاندماج مع الجماعة… قبلها كانت لا تتحمل الضجة أو الازدحام. وكانت تتلقى العلاج الطبيعي والوظيفي اللازم خلال أوقات الدوام الرسمية.. مما سهل عليها وعلينا تنظيم جدولها اليومي.
في أواخر السنة الدراسية، ومع جهود جميع المدرسات والأخصائيين، أصبح تلدى جوري رغبة في التواصل مع الآخرين بشكل أكبر… فتشجعت على النطق والكلام. بدأت بكلمات بسيطة مثل: (ماي) أي ماء… و(نام) للتعبير عن رغبتها في النوم.
اليوم… جوري تتكلم وتفهم اللغتين العربية والانجليزية… وبدأت أيضاً بقراءة اللغتين. بداية لم يكن نطقها سليماً أو مفهوماً بشكل واضح… ولكن مع التكرار والممارسة ما زالت تتحسن يومياً وتستخدم كلمات جديدة بشكل شبه يومي.
أما جسدياً فما زالت بحاجة إلى المساعدة في كل شيء.. وما زالت لا تستطيع الجلوس أو الوقوف بدون سند. ولكنها أصبحت قادرة على تحريك يديها واستخدام اللوح الرقمي. ولله الحمد فنحن نعيش في زمن وصل التطور التكنولوجي فيه مراحل ممكن أن يوفر لها الأدوات التي يمكن أن تسهل عليها حياتها.
تعرضنا للمضايقات وخاصة في بداية الطريق من بعض الأشخاص… ولكن هذه المضايقات لم تنتقص من جوري أو تغيير نظرتنا لها… جل ما نتجت عنه تلك المضايقات أنها بينت لنا طبائع البشر ومعادنهم.. وزادتنا إصراراً على التعامل مع جوري كطفل عادي مثل باقي الأطفال. لا يستطيع أحد أن يغير معتقدات الناس وأفعالهم… ولكن باستطاعتنا نحن أن نوفر الحب غير المشروط والتقبل اللازم لأطفالنا.
علق البعض أننا نضيع وقتنا وجهدنا ومالنا في الاستثمار بعلاج جوري، ونصحونا بأن نسعى لإنجاب أطفال أخرين عل وعسى أن لا يكونوا من ذوي الإعاقة. لأنه بنظرهم لا فائدة ترجى لنا من جوري…!!
أولاً هؤلاء الناس لم يعد مرحباً بهم بحياتنا. ببساطة لأن هذا الاعتقاد يعكس مستوى إيمان وأفكار لا تتناسب مع إيماننا وأفكارنا. نحن نؤمن أن من واجبنا كأهل أن نقوم برعاية وتربية أطفالنا لأنهم مسؤوليتنا ولأنهم رزق من الله… ولأننا مجبولون على حب الأبناء… لا لفائدة مستقبلية ممكن أن يوفروها لنا. الأعمار بيد الله… ما الفائدة من انتظار الاستفادة منهم إذا كنت ستموت قبل أن يكبروا مثلاً؟ وإن أطال الله بعمرك… ما الذي يضمن أنهم سيكونوا سنداً لك إن لم يسخرهم الله لك؟
ثانياً والأهم، مجرد وجود جوري بحياتنا نعمة وفضل من الله… ونحن نؤكد لجوري يومياً أنها أجمل هدية من الله. وفعلياً لدينا إيمان تام أن وجود جوري في حياتنا هو دليل قاطع على محبة الله لنا… كيف لنا أن نهملها أو أن ننتقص من أهميتها وهي هدية الخالق سبحانه وتعالى؟ أليس ذلك سوء أدب مع الله؟؟؟
لجوري ولجميع أصحاب الهمم مهما اختلفت أنواع وشدة إعاقاتهم الحق الكامل بأن يعيشوا الحياة بكامل تفاصيلها. لديهم ما لك من الحقوق… فهم بشر مثلنا تماماً… إلا أن الاختلاف الفعلي أن أكثرهم ذوو قلوب أصفى وأكبر من قلوب باقي البشر. نعم، لديهم احتياجات إضافية… نعم، لربما هناك الكثير مما لا يستطيعون فعله… ولكن انظر حولك… أليس هذا حال الجميع حتى الناس غير المعاقين؟؟
طفلك لا يستطيع المشي… ولكن كم من الناس ترفض المشي حتى لا تتعب؟ طفلك لا يستطيع أن يخدم نفسه بسبب إعاقته… كم من الناس متكلة تمام الاتكال على العمالة المنزلية حتى في أبسط الأمور؟ طفلك لديه حساسية زائدة للضوء أو الصوت وينزعج منهم بشكل واضح… ولربما يحرجك بتصرفاته… ولكن كم من طفل غير معاق حولك يقوم بتصرفات غير لائقة لمجرد أنه أراد ذلك؟؟؟
هذه بعض الأمور التي تتعرض لها أي عائلة ممن لديهم فرد من ذوي الإعاقة… وطبعاً هناك الكثير غيرها. ولكن الخلاصة هي الآتي: طالما قررت الإنجاب فمسؤولية تربيتك لطفلك أياً كان شكله أو جنسه أو وضعه الصحي تقع على عاتقك. أنت الأساس… إذا أحببت طفلك لن يضره إن لم يحبه الآخرون… إن احترمت طفلك لن يضره سوء تصرف الآخرين… إن تقبلت طفلك وسيقوم المجتمع بنهاية المطاف بتقبله.
مسألة تطور وتحسن طفلك مع تقديم العلاج اللازم له أو عدمها بيد الله عز وجل. ولكن، وكأي أمر حياتي… كإنسان ما عليك إلا السعي والدعاء… والله يتكفل بتيسير أمورك للأفضل… أياً كان هو الأفضل بتقدير العلي العظيم. حاول أن تستمتع بأبسط تفاصيل طفلك المعاق… بسمته… صوته… نظراته لك. تأكد أن هناك الكثير من الأشخاص الذين يتمنون وجود طفل في حياتهم مهما كان وضعه أو شكله… قد أنعم الله عليك بوجود هذا الطفل بحياتك فقم بواجب شكر وحفظ النعمة… لعل الله يجعل لك فيه الأجر الكثير… ولربما جعله أقصر الطرق لك للوصول إلى الجنة. وتأكد يقيناً أن إنجابك لطفل معاق ليس عقوبة من الله. لأن الله الرحيم قال في كتابه الكريم (ولا تزر وازرة وزر أخرى) أي أن الله لن يبتلي طفلك بإعاقة مدى الحياة ليعاقبك أنت… فليس ذلك من العدل والله هو العدل… وإنما هو قدر ولحكمة ما هو أعلم بها.
القدر بيد الله… ولكن ردة فعلك وتعاملك مع القدر بيدك أنت واختيارك أنت. لك أن ترفض ولك أن تتقبل… لك أن ترى هذا القدر على أنه نعمة ولك أن تعتقد أنه نقمة. في نهاية الأمر هو واقع ولا مفر منه… ولكن الفرق هو آلية تعاملك معه.
نحن اخترنا أن نؤمن بأنه نعمة… فما هو اختيارك أنت؟
البريد الالكتروني [email protected]
- خريجة الجامعة الأمريكية في الشارقة تخصص اتصال جماهيري
- علاقات عامة وتسويق على مدار أربع سنوات
- مدير مساعد لقسم العلاقات العامة والتسويق