بعد انتظار ثلاث سنوات، تم الحمل بشكل طبيعي. لم يكن هناك أي شيء خارج عن المألوف خلال الحمل وقد كانت صحتي وصحة الجنين بأفضل حال. أذكر أنه خلال أحد المواعيد الدورية لدى طبيبتي طلبت مني مجموعة تحاليل… ومن بينها تحليل الجينات. سألتها حينها ما فائدة هذا التحليل؟ أخبرتني أنه يكشف ما إذا كان لدى الطفل متلازمة داون. رفضت القيام بهذا التحليل في ذلك الوقت وأذكر بوضوح تام أنني قلت للطبيبة حينذاك: ما الفرق الذي سيحدثه هذا التحليل؟ إن كان جنيني من ذوي الإعاقة أم لا. سيبقى طفلي وهذا قدر الله أياً كان وأنا راضية به.
لم يكن هناك أي مؤشر لإعاقة أو حتى مشاكل صحية. كان نمو جنيني وحركته طبيعية. وبقي الأمر كذلك حتى صبيحة أحد الأيام في الأسبوع الـ 26 للحمل. تعرضت لصدمة نفسية شديدة نوعاً ما لسبب خارج عن إرادتي ولم ألق بالاً للأمر. ولكن بعد يوم أو يومين استيقظت صباحاً وكنت أشعر بالإرهاق الشديد… استغربت الأمر ولكن تذكرت إرهاق الحمل الذي تشتكي منه جميع نساء العالم… مع أنني لم أصل إلى مرحلة متقدمة من الحمل بعد.
لم يدم استغرابي طويلاً… حيث شعرت بتقلصات ومغص خلال وجبة الغداء… وكانت التقلصات كفيلة بأن أذهب مباشرة إلى قسم الطوارئ. عند وصولي هناك أخبرتني الطبيبة أني على وشك الولادة… وهذا ما حصل بالفعل. تمت الولادة طبيعياً بعد ساعات قليلة من بداية التقلصات. ولدت ابنتي جوري ونقلوها فوراً إلى قسم العناية المركزة للخدج. لم أستطع حتى رؤيتها …كونها ولادة مبكرة جداً، ولأن حجم جوري كان صغيراً جداً كان لابد من بقائها في الحاضنة بقسم الخدج حيث بقيت هناك لمدة 49 يوماً. لم تتعرض لأية مشاكل صحية وكانت جميع تحاليلها سليمة… ولكنها احتاجت لنقل دم مرتين وكانت أحياناً تتوقف عن التنفس لفترة بسيطة… ولكن هذه الأمور تعتبر روتينية للخدج وكان جميع الأطفال في العناية المركزة يتعرضون لنفس الأمور. لم تكن تجربة سهلة أبداً.
بعد وصول جوري للوزن المطلوب وتمكنها من التنفس وشرب الحليب بشكل طبيعي كان باستطاعتنا أخيراً الرجوع إلى المنزل. حذرنا الأطباء وقتها من أن تصاب جوري بأي مرض تنفسي قد يودي ـ لا سمح الله ـ بحياتها. لذا، قمنا بعزلها تماما عن العالم الخارجي لمدة شهر حتى موعد زيارة الطبيب الذي أكد لنا حينها أنها بصحة جيدة ولا حاجة لعزلها بعد الآن.
مرت الأيام…وبدأنا نتعود على روتين الحياة وبدأت جوري بالنمو… ولكنها لم تقم بما يقوم به باقي الأطفال في عمرها. كنا نعزو الأمر لكونها مولودة مبكراً وفي هذه الحالة يتم تعديل العمر الزمني مع العمر الافتراضي للطفل. ولكن حتى بعد التعديل لم تكن جوري تقوم بأي من الحركات المعتادة… لم تستطع أن تنقلب على بطنها…لم تستطع الجلوس حتى بعد عمر الستة أشهر.. ولم تستطع أن تمسك أي شيء ولم تستطع حتى أن تسند رقبتها بشكل مستقيم. طبعاً قمنا بزيارة أطباء أطفال خلال هذه الفترة ولكن أحداً منهم لم يقل شيئاً عن وضع جوري…حتى لم يلمحوا إلى إمكانية وجود مشكلة ما. ولكنني كأم لم أستطع تجاهل الأمر وبدأت البحث على الإنترنت عما يمكن ايجاده بالنسبة لوضع ابنتي وتأخرها. ظهرت أمامي عبارة الشلل الدماغي كإحتمال ولكني رجوت الله ألا يكون هذا هو حالها.
في الفترة نفسها كان أحد أصدقائنا لديه طفل في عمر جوري تقريباً لا يقوى على المشي أو حتى الوقوف… وبعد عرضه على طبيب أعصاب تبين أنه يعاني من نقص في الفيتامينات… وبعد العلاج بفترة بسيطة استطاع المشي والتحرك بشكل طبيعي وتلقائي. كأي أم كنت آمل أن تكون حالة ابنتي مشابهة… وأن تأخرها ليس بمشكلة أكبر من مشكلة ذاك الطفل… لربما كانت بداية مرحلة الإنكار عندي… ومع ذلك لم انتظر طويلاً حتى ذهبنا لاستشارة طبيب أطفال اختصاصه أطفال خدج. بعد معاينة قصيرة وملامح الاشمئزاز تعلو وجهه قال: (احتاج لصورة الدماغ وحوض الطفلة)… ثم أردف بنبرة اشمئزاز: (يلا… عوضك على الله).
كان تلقي الخبر وبتلك الطريقة صدمة. وكانت تلك الطريقة كفيلة بأن نبحث عن طبيب آخر للتأكد من الموضوع. ذهبنا بعدها لطبيب أعصاب اطفال… قام بالكشف عليها بتأنٍ ولطف. وعند انتهائه أخبرنا بطريقة لبقة أن جوري لديها إعاقة وسببها بالغالب تلف في خلايا الدماغ. وعند سؤاله ما معنى ذلك وكيف سيؤثر على حياتها ومستقبلها قال إن أحداً لا يستطيع الجزم… حيث أن كل حالة هي حالة فريدة عن الأخرى… ولكن نظراً لردة فعل جوري خلال الفحص فإن تطورها ـ في الغالب ـ سيكون قريباً نوعاً ما من الطبيعي… ولكن لربما يجب ألا نأمل بأن تكون الأولى على صفها إن دخلت المدرسة وأنها ستحتاج لعلاج طبيعي لفترة طويلة جداً من الزمن. شكرنا الطبيب ورجعنا إلى المنزل. كان وقع الخبر صادم بطبيعة الحال ولكن كان هذا هو واقعنا ويجب التعامل معه بجميع الأحوال. كان عمر جوري سنة تقريباً حين تأكدنا من وضعها… وخلال أسبوع من زيارة الطبيب بدأ مشوار العلاج الطبيعي المستمر للحظتنا هذه.
طبعاً تلقي الخبر وتقبله لم يكن بالأمر السهل، وخاصة عندما لا يكون لديك أي علم مسبق عن هذه الإعاقة ولم تتعامل مع أي شخص لديه نفس الحالة. أنا من بلد وزوجي من بلد آخر…وكلانا كنا بصحة جيدة حينها… لم يكن هناك أي مؤشر على إمكانية حدوث إعاقة أصلاً… ولكن قدر الله وما شاء فعل.
كان الذهاب إلى مركز العلاج الطبيعي مؤلم نفسياً… خاصة عندما ترى فلذة كبدك وهي تبكي وتعاني في الوقت الذي يفترض فيها أن تلعب وتضحك مثل باقي أقرانها. تندرج إعاقة جوري تحت مسمى الشلل الدماغي التشنجي الرباعي… مما يعني أن جميع أطراف جوري متشنجة طوال الوقت… وهذا التشنج والشد يمنعها من استخدام جسدها وتحريكه بشكل طبيعي ومعتاد.
في علم النفس يقال إن بعد الصدمة تأتي مرحلة الإنكار والرفض… وبعدها الحزن… وأخيراً التقبل أو التعايش. لقد مررنا بجميع المراحل… ولكن لم تتغير معاملتنا لجوري أو إحساسنا تجاهها ولا للحظة. جوري هي ابنتنا… هي أجمل نعمة من الله أنعم بها علينا. نؤمن تماماً أن الأطفال رزق ونعمة من الله أياً كان حالهم أو شكلهم… ورب الخير لا يبعث إلا بخير. إعاقة جوري هي جزء بسيط من شخص جوري وليس كل كيانها. جوري هي إنسان بالدرجة الأولى.. وابنتي بالدرجة الثانية. أما الإعاقة فهي صفة من صفاتها فقط لا غير.
ولأنها مسؤوليتنا وأمانة حبانا الله بها، قمنا بطرق جميع الأبواب لمساعدتها… من حيث الأطباء أو المعالجين أو أي أحد أو شيء ممكن أن يضيف لجوري أية فائدة. وما زلنا على نفس العهد… نقدم لها ما باستطاعتنا حتى نوفر لها الفرص التي من الممكن أن تساعدها.
إن التعامل مع الإعاقة ليس بالأمر الهين… ولكنه أيضاً ليس بالأمر المستحيل. وعندما تخلص النية لله فإن الله يعينك وييسر لك الأفضل دائماً… حتى وإن لم تكن ترى أنه الأفضل لك حينها. فضل الله علينا بتحسن وتطور ملحوظ لدى جوري. نعم، لربما يعتبر تطوراً بطيئاً في مقاييس البعض… ولكن لا يمكن التقليل من أهميته. وحتى وإن لم تتطور جوري… ما زال ذلك الأمر تقدير رب العالمين وما زلنا راضين به. لم يكن هدفنا أبداً الوصول إلى أية نتيجة مع جوري… ولم نكن نعرف ما هو ممكن أن نصل إليه أصلاً… ولكن قدمنا لها ما استطعنا محاولة منا لأداء الأمانة أمام الله. نعم… قد يعترينا التعب أحياناً والإحباط أحياناً أخرى… فنحن بشر ولدينا طاقة محدودة… ولكننا نستمر بالمحاولة بغض النظر عن النتائج… لأنه واجبنا وحق جوري علينا كأهل.
…. /// …. يتبع في العدد القادم: رحلتي مع جوري… العلاج
البريد الالكتروني [email protected]
- خريجة الجامعة الأمريكية في الشارقة تخصص اتصال جماهيري
- علاقات عامة وتسويق على مدار أربع سنوات
- مدير مساعد لقسم العلاقات العامة والتسويق