وجدت رسالتها في دعم الأشخاص ضعاف السمع.
بقلم أميرة الزعبي
في عالم مليء بالأصوات والضجيج، قضت ضيفتنا معظم حياتها تائهةً بين عوالم متناقضة. ورغم كل العوائق والتحديات، هنالك دائماً شعاع من الإصرار والشجاعة. تلك الفتاة التي تعيش بين جموع الناس، ولكنها تشعر بالغربة والوحدة في عالم يبدو ليس لها مكان فيه، تبحث عن مكان تنتمي إليه. تعرفوا معي في هذه القصة على رنا طقوش التي أصيبت بضعف في السمع منذ نعومة أظفارها، قصة رنا ليست قصة تجاوز العقبات، بل هي دليل ملموس على تحدي الظروف، وكسر الصورة النمطية، لتنتهي باحتضان جمالها وتميّزها.
اقرا ايضا: تعليم الأشخاص الصم وحلقته المفقودة
وكوني أنا أمٌ لطفلة ضعيفة سمع، كنت أسعى دائماً لمعرفة أشخاص مروا بتجربة مشابهة وأبحث عن قصص نجاح لأفراد يعانون من ضعف في السمع، بحثاً عن الطمأنينة والراحة، فقد كان القلق يسيطر عليّ عند التفكير في مستقبلها، ولم يكن لدي معلومات كافية عن ضعف السمع، لكن معرفتي بصاحبة القصة “رنا” كانت مصدر إلهام وشعاع أمل يضيء رحلتي مع ابنتي، ويمنحني الثقة والتفاؤل.
انظر ايضا: مدرسة وروضة الأمل للصم التابعة لمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية
أتمنى أن تكون قصة رنا مصدراً للقوة والإلهام لكل الأمهات اللواتي اكتشفن ضعف سمع أطفالهن، ويعتريهنّ شعور بالقلق بشأنهم. في الحقيقة، هذه القصة ليست للأمهات فقط، بل لكل مُرَبٍّ لطفل يعاني من ضعف في السمع، ولمجتمع الأشخاص ذوي الإعاقة السمعية، ويشعرون بعدم الارتياح أو الخجل وبعدم القدرة على تقبل وضعهم، وأن تكون قصتها نوراً يملأُ قلوبهم وينير دروبهم، وأن تعطيهم الثقة والقوة للمضي قدماً في تحقيق أحلامهم، مهما كانت التحديات.
أولاً: عرفينا عن نفسك؟
اسمي رنا طقوش وأنا لبنانية الأصل. كاتبة ومؤلفة لرواية “بين عالمين” والتي تحدثتُ فيها عن رحلتي مع ضعف السمع. بدأت دراستي الجامعية بتخصص مختبرات طبية، ولكن بعد 3 سنوات تقريباً، قررت الانتقال لمجال لغة الإشارة. درستها لمدة 3 سنوات والآن أنا مترجمة لغة إشارة ومدربة معتمدة، وأعمل معلمة قرآن كريم للأشخاص الصم.
ثانياً: ما هي أصعب المواقف والتحديات التي واجهتها؟ وأي مرحلة كانت الأصعب؟
بداية، أرغبُ في توضيح أنني تعرضت لحادث في سن السابعة، حيث أغلق باب الحافلة المدرسية على رأسي.
فمررتُ بعدها بمراحل صعبة عديدة. أولها، عندما بدأت العوارض بالظهور ولم أكن أعلم ما الذي يجري، كنت حينها في الصف الثاني، فتاة صغيرة بعمر السبع سنوات تقريباً، لا تدري ما هي المشكلة. كانت لديّ تساؤلات كثيرة عن تصرفات الجميع حولي، ولم أكن أعلم إن كانت المشكلة مني فما هو الحل إذاً.
وبعد مرور عدة شهور على الحادث تقريباً، أذكر موقفاً وأنا في الفصل الدراسي، عندما طلبت المعلمة مني الكتابة على اللوح، وفي أثناء الكتابة سمعتُ صوتاً قوياً، استدرت وإذا بالمُدرّسة والطلاب جميعاً يحدقون بي بدهشة، لم أدرِ ما الذي حدث؟ ولماذا يحدقون بي؟ هل ارتكبت خطأ ما؟ عدتُ إلى مكاني بخجل وسألت صديقتي عن الذي حدث، أخبرتني أن المعلمة كانت تنادي بإسمي ولم أُجب فاضطر الطلاب إلى ندائي بصوت واحد، لم أفهم ما الذي حصل، كانت حادثة غريبة ومربكة.
وأيضاً واحدة من أبرز التحديات التي واجهتها بعد ذلك كانت، الاندماج في المجموعات الصفية لإكمال مشروع ما، حيث واجهت صعوبة في إقامة صداقات مع الفتيات.
رغم التحديّات وصلت وحقّقت وأنجزت، نحن فخورون بك، شاركينا لحظات فخرك والرضا على مرّ السنين.
أولاً، من بين الإنجازات التي تملأ قلبي بالفخر هو حفظي للقرآن الكريم، ثم تأليف روايتي “بين عالمين”. ولكن الإنجاز الذي يأخذ مكانة في قلبي هو عندما بدأت أتقبل نفسي كما هي. لقد زادت ثقتي بنفسي بطريقة لم أشعر بها من قبل، ولم أعد أشعر بالخجل أو الحاجة إلى إخفاء ضعف سمعي.
بالطبع، لم يكن موضوع التقبل شيئاً يحدث في ليلة واحدة، بل استغرق الأمر سنوات عدّة. أولاً، هو توفيق من رب العالمين، حيث وضع الرضا والقبول في قلبي ووهبني أشخاصاً ومواقف ساهمت في تغيير رؤيتي لنفسي وتقبلها. ثانياً، كانت هناك العديد من المواقف التي كنت أخفي فيها ضعف سمعي، وكانت هذه المواقف تسبب لي الحرج والتوتر. بدأت في تغيير نظرتي، وتساءلت لماذا أخفي ضعف سمعي؟ إنه لا يحسن من وضعي، بل يزيد الأمر سوءاً. تدريجياً، تغيرتُ نحو الأفضل، فبدأت أتقبل نفسي كما هي، ولاحظت بعد ذلك أنه عندما بدأتُ التكلم عن ضعف سمعي بكل شفافية، كانت ردود فعل الناس أكثر إيجابية، وشعرت أن الأمور بدأت تسير بسلاسة أكبر، أدركت حينها أن الشجاعة في مواجهة الحقيقة بدلاً من الخوف هي الطريق نحو السلام الداخلي والتطور. إضافة إلى ذلك، كان لتشجيع ودعم الناس لي عبر منصات التواصل الاجتماعي تأثير إيجابي أيضاً في صقل شخصيتي وتطويرها.
رابعاً: من كان الداعم الأساسي في حياة رنا؟
والداي هما الداعمان الأساسيّان لي في الحياة، لا يمكنني إلا أن أشكرهما وأدعو الله أن يجزيهما خير الجزاء ويبارك فيهما. أمي كانت دائماً بجانبي، مؤيدة وداعمة لي في كل الظروف والأوقات، كانت تشجعني باستمرار للانخراط في المجتمع. حتى عندما واجهت الرفض سواء في المدرسة أو العمل، كانت تقف بجانبي بتفهم وتشجيع، مما أعطاني القوة للاستمرار.
أما عن دعم والدي فقد تجلّى بطريقة مختلفة ومميزة، لا تقلّ عن دعم والدتي، فقد كان يقدم لي النصائح ويساندني بطرق مختلفة، كلاهما أسهم في بناء شخصيتي، وأنا ممتنة لهما من أعماق قلبي على المحبة والدعم والتشجيع لي في كل مرحلة من مراحل حياتي.
أما الشخص الثالث الذي كان داعماً مهماً في حياتي هي الدكتورة ندى مرعشلي، لقد كانت ملهمتي ومرشدتي في رحلتي الأدبية، خلال تأليفي للرواية، حينما كنت أشعر بالإحباط واليأس وبأنني عاجزة عن إتمام مشروعي، كانت تطمئنني بكلماتها وتزرع الأمل في قلبي من جديد. لقد كانت أكثر من مجرد معلمة، بل وصديقة عزيزة أيضاً. ولا أنسى دعم إخوتي وبعض الأصدقاء الذين كانوا دائماً بجانبي.
من خلال تجربتك ومسيرتك المُلهمة، ما هي الرسالة التي ترغبين في توجيهها للأشخاص ذوي ضعف السمع وللمجتمع ككُل؟
أودُّ أن أقول لكل من يعاني من ضعف السمع، لا تخجلوا من أنفسكم، نحن بشر ولا يوجد إنسان مثالي، خالٍ من النقص في هذه الحياة، كل إنسان لديه نقصٌ في قدرة معينة أو حاسة معينة أو غيرها، فالكمالُ ليس من صفات البشر، بل لله وحده. ونحن نعاني من نقص في حاسة السمع ولا يوجد ما يدعو للخجل. لا تسمحوا للخوف أن يمنعكم من الخروج إلى المجتمع والاندماج فيه والتعبير عن احتياجاتكم وعن طرق التواصل المناسبة لكم.
وللمجتمع أقول: اسعوا إلى تثقيف أنفسكم عن مختلف الإعاقات وكيفية التعامل معها. تعلموا الطرق المناسبة للتواصل الفعّال مع ضعاف السمع. نشر الوعي ليس مسؤولية الشخص وحده، بل هو مسؤولية مجتمعية تتضمن الأسرة، المدرسة، المؤسسات، وكل فرد في المجتمع.
في النهاية، أودّ أن أشكر رنا على شجاعتها وعزيمتها ودعمها المستمر للأشخاص ضعاف السمع، كما أرغب في شكر كل من وقف بجانبها وكان داعماً لها في رحلتها. لقد أثبتت رنا أنّ ضعف السمع ليس عائقاً أمام التميز والتألق، وأن مسؤولية البشر، باختلاف قدراتهم، هي السعي لتحقيق أهدافهم وجني ثمار جهودهم بإذن الله تعالى “وأَن ليس للإنسانِ إلَّا ما سَعَى، وأَنَّ سَعيَهُ سَوْفَ يُرى”.