بدأت قصتي مع ريدجو إيليا بمحض الصدفة عندما دعاني مديري بمركز التدخل المبكر التابع لمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية إلى مكتبه ورشحني – دون سابق طلب مني – لحضور مؤتمر ريدجو إميليا للتعليم في الطفولة المبكرة، والذي أقيم لأول مرة بإمارة الشارقة في شهر مارس عام 2018 على مدار ثلاثة أيام متتالية برعاية مؤسسة حروف، وفي اليوم الثالث والأخير من المؤتمر أعلنت اللجنة المنظمة عن إجراء قرعة لاختيار شخصين من الحضور للسفر إلى ريدجو إميليا والاطلاع على التجربة في مهدها، ولعبت الصدفة دورها مرة ثانية عندما ظهر اسمي على شاشة العرض كثاني شخص اختارته القرعة للسفر إلى إيطاليا لمدة عشر أيام وحضور دورة تدريبية في مركز ريدجو للطفولة خلال شهر نوفمبر عام 2018، ورغم اعجابي الشديد بما تم عرضه في المؤتمر بالشارقة من ملامح تجربة ريدجو إميليا في التعليم بالطفولة المبكرة إلا أن تساؤلاً كان يلح على ذهني وقتها: (لماذا اختارني الله عز وجل من وسط كل هذا الحضور للسفر إلى إيطاليا وحضور هذه الدورة التدريبية؟).
سافرت إلى إيطاليا بتساؤلات كثيرة ورغبة قوية في اكتشاف الجديد، عشرة أيام قضيتها في مدينة ريدجو إميليا الإيطالية كانت لي بمثابة حبوب منشطة للحواس والخيال وروح الطفولة الكامنة بداخلي.
ريدجو إميليا هي مدينة تقع في شمال إيطاليا بإقليم إميليا رومانيا، يقطنها 160583 ساكناً، تتمتع بأراض سهلية بالكامل وتشتهر بصناعة الجبن البارميزان والخل البلسمي، والمدينة فيها الكثير من الأشجار والطبيعة الخلابة، وتعتبر الدراجات وسيلة النقل المفضلة لدى السكان.
وأكثر ما يميز هذه المدينة هي تجربتها المميزة في مجال الطفولة المبكرة، حيث تعد طريقة ريدجو إميليا من أكثر الطرق التربوية التي ذاع صيتها في شتى أرجاء العالم، وقد نجحت هذه المدينة الصغيرة في استقطاب أنظار العالم أجمع لها بوصفها قبلة التربية والتعليم في الطفولة المبكرة بالعالم خلال السنوات العشرين الأخيرة، والبرهان على ذلك القول هو أن الدورة التدريبية التي شرفت بحضورها في إيطاليا شارك بها أكثر من 350 مشاركاً من أكثر من 38 دولة، جاءوا جميعهم للاطلاع على تجربة ريدجو إميليا عن قرب واستياق المعلومات من مصدرها.
نشأة منهج ريدجو إميليا في الطفولة المبكرة:
هو منهج إيطالي للتعليم في الطفولة المبكرة ترجع تسميته إلى مدينة (ريدجو إميليا)، ويعمل به في أغلب المدارس ورياض الأطفال والحضانات بالمدينة، ومدن أخرى بإيطاليا وخارجها، كانت البداية عندما قام عدد من الأهالي ببناء مدارس لأبنائهم في نهاية الحكم الفاشي والحرب العالمية الثانية 1945، رغبة منهم في إعادة بناء مجتمعهم وتشكيل مستقبله الذي لن يتم بدون وجود نظام تعليمي يحتوي أطفالهم ويوفر لهم البيئة الخصبة للنمو والتعلم.
ويرجع الفضل في تأسيس هذا المنهج إلى لوريس مالاجوزي Loris Malaguzzi الذي كان يعمل معلماً بقرية ريدجو إميليا، فقد قام لوريس مالاجوزي ومجموعة من المعلمين بوضع أسس المنهج، معتمدين في ذلك على المبادئ الفلسفية الأساسية لكل من جون ديوي وبياجيه وفيجوتسكي، من خلال التركيز على التطور العقلي للأطفال عن طريق تشجيعهم في عمر الطفولة المبكرة وما قبل المدرسة على استكشاف بيئتهم والتعبير عن أنفسهم بمختلف طرق التعبير والتواصل واللغات (كلمات ـ حركات ـ رسومات ـ نحت ـ خيال الظل ـ دراما ـ الموسيقى.. وغير ذلك من لغات) وهو ما يطلق عليه لوريس ملاجوزي مصطلح (لغات الطفل المائة).
نبذة مختصرة عن المنهج Reggio Emilia Approach
يعد منهج ريدجو اميليا من المناهج التي تعتني بالأطفال من الميلاد وحتى عمر السادسة، ويوفر لهم السياقات العديدة التي تحفز نموهم في مختلف المجالات، وتشجعهم على التعبير عن أنفسهم عبر العديد من اللغات والأدوات. ويزودنا منهج ريدجو اميليا بطريقة جديدة للنظر إلى كل من (محتوى التعلم ـ التخطيط لعملية التعلم ـ دور الطفل ـ دور المعلم).
محتوى التعلم والتخطيط:
من أهم الميزات في طريقة ريدجو إميليا هو ما يمكن أن نطلق عليه المنهج المنبثق من احتياجات الطفل (Emerging Curriculum) أو المنهج المتمركز حول الطفل (Child – Centered Curriculum) ويقصد به أن المنهج يُبنى ذاتياً، بما يعني أن العملية التربوية ليست مخصصة ومخططة مسبقاً، فمحتوى التعلم في ريدجو إميليا هو نتاج للتفاعل بين الأطفال ومعلميهم وبين الأطفال بعضهم بعضاً، حيث أن عملية التعلم تتم على مدار العام من خلال (مشاريع) (Progettazione) يشارك كل من الطفل والمعلم في تحديد ملامح كل مشروع، فالمعلمون في ريدجو إميليا لا يعملون دون منهاج محدد سلفاً، ولا يعني ذلك عدم التفكير المسبق أو ضعف الإعداد، ولكن يتعلم المعلم أو المعلمة كيف يلاحظ الأطفال عن قرب، وكيف يستمع لهم بإنصات واهتمام، وكيف يقدرون اهتمامات الأطفال ومن ثم اتباع استراتيجيات تعليمية مناسبة للسماح للأطفال بتدعيم معارفهم وفقاً لاهتماماتهم، وبالتالي فإن موضوعات المنهج تأتي من الأطفال أنفسهم واهتماماتهم، وكذلك من الموضوعات ذات الأهمية للأسرة والمجتمع، ولا تتبع المشروعات في المنهج جداول زمنية صارمة ولكنها تخطو ببطء نحو اهتمامات الأطفال وعلى قدر سرعتهم في التعلم.
إن التخطيط في ريدجو إميليا هو تخطيط مرن لا يتضمن وضع أهداف سلوكية محددة بجداول زمنية صارمة تفرض على الطفل مخرجات عملية التعلم قبل البدء فيها من الأساس، وإنما التخطيط هنا يكون من خلال استخلاص مختلف الفروض المتوقعة لفرص التعلم الفطرية الكامنة داخل كل مشروع، وبذلك تكون مخرجات عملية التعلم عامة إلى أقصى درجة تحترم طاقات الطفل وقدراته الكامنة التي تتفاعل مع الخامات المتاحة والأقران والبالغين، والتي يعبر عنها الطفل بمئات اللغات.
وعملية التوثيق (Documentation) هنا في غاية الأهمية، حيث يتم توثيق مخرجات التعلم وإنجاز الأطفال من خلال تجميع ناتج إبداع الطفل في كل مشروع وتوثيقه بملف الطفل إما عن طريق الصور أو المعارض الفنية أو الملاحظات التي تسجلها المعلمة حول حوارات الطفل مع أقرانه والأسئلة التي يطرحها أثناء عملية بحثه واكتشافه، وعن طريق التوثيق يصبح الأطفال أكثر حباً للاستطلاع وأكثر اهتماماً وشغفاً وأكثر ثقة، وتتاح لهم فرصة التفكير والتأمل فيما حققوه وإعادة البحث فيه في وقت لاحق، وبالطبع يولي المنهج اهتماماً كبيراً بدور المشاركة الأسرية، حيث يتم اطلاع الأسر على ملفات التوثيق الخاصة بطفلهم.
الطفل في ريدجو إميليا:
ينظر إلى الطفل هنا على أنه اجتماعي منذ ولادته ولديه قوة كامنة غير محدودة للتفاعل مع الآخرين والإسهام الفعال في العالم المحيط، ولديه رغبة كبيرة في الفضول والتأمل وحب الاستطلاع، وبالتالي فالطفل في ريدجو إميليا ليس متلقياً سلبياً لمحتوى التعلم، بل هو باحث ومنظم ومشارك في العملية التعليمية وله الحق في التحكم وتوجيه عملية التعلم، وكذلك من حقه أن تتاح له فرص وطرق لا حصر لها للتعبير عن نفسه وأفكاره ومشاعره.
يقول ملاجوزي: (إن نظرتنا للطفل لم تعد تعتبره منعزلاً ومنغلقاً حول ذاته، كذلك لا نراه فقط منخرطاً في عمل ذي أهداف محددة، وأيضاً لا نركز في نظرتنا إليه على النواحي المعرفية، ولا نقلل أبداً من قيمة مشاعره، فبدلاً من ذلك ننظر إليه على أنه مفعم بالحيوية وقوي وكفء وماهر، وأهم من ذلك كله أنه مرتبط بالآخرين من البالغين وأقرانه من الأطفال).
ومصطلح (لغات الطفل المائة) (The Hundred Languages) في ريدجو إميليا يشير إلى الطرق العديدة التي يستطيع من خلالها الأطفال التواصل والتعبير عن فهمهم ومشاعرهم وإبداعاتهم، هذه اللغات قد تكون (كلمات – رسومات ـ تلوين ـ أشكال بالصلصال ـ مسرح ـ تعبير جسدي ـ موسيقى – تصوير) وغير ذلك من الطرق التي تنطق بآراء الأطفال وتساعدهم على إيصال ما يفكرون به.
يقول ملاجوزي في قصيدته عن لغات الطفل المائة:
الطفل مكون من مائة
الطفل لديه مائة لغة
مائة يد
مائة فكرة
مائة طريقة للتفكير، للعب وللكلام
مائة
دائماً لديه مائة طريقة للاستماع، للحب
مائة بهجة للغناء والفهم
مائة عالم للاكتشاف
مائة عالم للاختراع
مائة عالم للحلم
الطفل لديه مائة لغة وأكثر
ولكنهم يسرقون منه تسعة وتسعين
المدرسة والثقافة تفصل الرأس عن الجسد
تخبر الطفل أن يفكر بلا يدين
أن يعمل بلا رأس (عقل)
أن يستمع ولا يتكلم
أن يفهم بلا بهجة
أن يحب ويمرح
فقط في الأعياد
يخبرون الطفل: أن يكتشف العالم الموجود بالفعل
ومن اللغات المائة يسرقون منهم تسعة وتسعين
يخبرون الطفل:
أن العمل واللعب
والحقيقة والخيال
والعلم والتخيل
والسماء والأرض
واليقظة والحلم
أشياء لا تجتمع معاً
ولذلك يخبرون الطفل أن المائة لا توجد
ويقول الطفل: محال فهي موجودة.
المعلم في ريدجو إميليا:
أما المعلم في ريدجو إميليا فيهتم بالتعرف على كل طفل كفرد، وكذلك العمل على تكوين علاقة قائمة على الثقة، ويبذل قصارى جهده في مساندة الأطفال وتشجيعهم أثناء العملية التعليمية، وكذلك تشجيعهم على التأمل والاستكشاف، ولا يقوم المعلم بالتدخل المباشر والسريع لحل مشكلات الأطفال ولكنه يترك المجال للأطفال لتفهم مشكلاتهم والعمل على حلها بأنفسهم، فالمعلم في ريدجو إميليا ما هو إلا باحث مع الأطفال ومتفاعل معهم في بيئة طبيعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فبيئة المدارس في (ريدجو اميليا) هي بيئات جميلة، بسبب التصميم الواعي للمساحة، والاستخدام الجيد للضوء والألوان، والاعتماد بشكل كبير على الإضاءة الطبيعية التي تضيء المركز من خلال النوافذ والأبواب الزجاجية، وتم اختيار البناء والأثاث والمواد بعناية وبطريقة تدعو الأطفال إلى الاستكشاف والتفكير في الأحجام، والأشكال، والروائح، كي يتفاعل الطفل مع عناصرها، ويتفاعل فيها مع أقرانه ومع المعلم، والجدير بالذكر هنا أن كل مدرسة من مدارس ريدجو إميليا بها طباخ يعمل بنظام الدوام الكامل ويشارك الأطفال في إعداد الوجبات اليومية، حيث يعتبر إعداد الوجبة فرصة فطرية عظيمة للتعلم يجب استثمارها.
وعن دور المعلمين في ريدجو إميليا يقول مالاجوزي: (يجب أن تكون توقعاتنا عن الطفل متعددة ومرنة، ويجب أن نتواصل مع الأطفال في كل الأنشطة بحيث نقذف الكرة لهم بطريقة تجعلهم يستمرون في اللعب معنا وتطوير ألعاب أخرى) هذه الاستعارة الجميلة والملهمة تدفعنا إلى تحسين أسلوب التعليم بحيث لا يكون المعلم قاضياً، وإنما يكون مساعداً ومشجّعاً.
ختام:
إن زيارتي إلى مدينة ريدجو إميليا كانت رحلة بحث واستكشاف ودراسة بدأت عن طريق الصدفة وانتهت إلى يقين، يقين تام بأن ما يوفره مركز التدخل المبكر بمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية لأطفاله من فرص تعلم فطرية، وبيئة طبيعية محفزة لنموهم، واهتمام بالغ بالمشاركة الأسرية، يسهم في اكتشاف مئات اللغات التي يعبر بها أطفالنا عن مشاعرهم وتطورهم وتفاعلهم حتى وإن كانوا من غير الناطقين، واحتوائهم بالمجتمع بشكل فعال.
الثلاثاء 4 ديسمبر 2018
تم الرجوع في كتابة المقالة إلى المراجع التالية:
- Being part, being involved – Ghirotto & Mazzoni 2013
- The hundred languages of children – The Reggio Emilia Approach advanced reflections – Edwards & Gandini 1998
رامي مجدي عباس أحمد الحبيبي
الجنسية: مصري
الاقامة: الشارقة، دولة الامارات العربية المتحدة
متحرك: 00971509781991
مشرف وحدة النطق واللغة بمركز التدخل المبكر مركز التدخل المبكر – مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية
حاصل على ليسانس آداب وتربية وتمهيدي ماجستير في التربية الخاصة من كلية تربية عين شمس، القاهرة، مصر.
حاصل على العديد من الدورات والورش التدريبية في مجال النطق واللغة.
يعمل كأخصائي نطق ولغة بمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية منذ عام 2007.
شارك كمحاضر في العديد من المؤتمرات والملتقيات العلمية مثل مؤتمر الشارقة لمتلازمة داون وملتقي المنال.