بقلم د. غسان شحرور
في عام 2018، وخلال جولة لي في مكتبة الكويت الوطنية، استوقفني كتاب “طب الأذن والأنف والحنجرة الشرعي” للدكتور محمد السيد عطية. ما إن تصفحته حتى لفتني مضمونه العلمي المميز، ولغته العربية المتقنة، والمصطلحات الإنجليزية الدقيقة المصاحبة للنص.
دفعني هذا الانطباع فيما بعد للتواصل هاتفياً مع المؤلف في مصر، لمناقشة بعض النقاط التي أثارت اهتمامي.
وفي الحوار الثاني، اتفقنا على السعي لتنظيم ندوة علمية في الكويت حول مضمون الكتاب، بمشاركة عدد من الأطباء والجهات الصحية المعنية. ورغم تعذر إيجاد جهة تتبنى تنظيم الندوة آنذاك، استمر تواصلنا من أجل تعزيز الاهتمام بهذا التخصص الجديد ومحتوى الكتاب.
غلاف الكتاب

وبعد سنوات قليلة، بلغني نبأ رحيله، فشعرت أن هذا الجهد الذي بدأ بكتاب وتجربة، وقدم اقتراحات، وأضاء طريق تخصص حديث في الطب الجنائي، لا بد أن يُستكمل بكلمة تليق بصاحبه، وتُؤكد أثره في ذاكرة الطب العربي وبين زملائه في المهنة.
يُعد الدكتور محمد السيد عطية (1959–2021) أحد الرموز الطبية والعلمية المميزة، وواحدًا من القلائل الذين جمعوا بين التكوين الأكاديمي المتعدد، والرؤية التخصصية الرائدة، والممارسة المهنية الدقيقة.
وُلد في مدينة “أبو كبير” بمحافظة الشرقية في مصر، وتخرج في كلية الطب البشري عام 1984، ليبدأ مسيرة جمعت بين خدمة الإنسان، والتأصيل العلمي، والدقة القانونية.
تكوين علمي متعدد الأبعاد وفريد في مساره
تميّز الدكتور عطية بتكوين علمي نادر جمع بين الطب والقانون والإدارة. فإلى جانب حصوله على بكالوريوس الطب والجراحة، نال إجازة الحقوق عام 1989، الأمر الذي منحه بُعدًا قانونيًا أساسيًا في تخصصه. ثم حصل على درجة الماجستير في جراحة الأذن والأنف والحنجرة مع بحث متخصص في السمعيات عام 1992، وأتبع ذلك بدبلومي إدارة المستشفيات والجودة الشاملة، فضلاً عن مشاركته في دورات وزمالات طبية متنوعة عمّقت من كفاءته ووسّعت من آفاقه المهنية.
ريادة علمية في تأسيس تخصص غير مسبوق
كما هو معروف الطب الشرعي تخصص يجمع بين العلوم الطبية والقانونية، ويهدف إلى كشف الحقائق في القضايا الجنائية والمدنية. يساهم في تحديد أسباب الوفاة، العجز الوظيفي، تحليل الإصابات، وتقديم الأدلة العلمية للمحاكم. دوره أساسي في تحقيق العدالة وحماية حقوق الأفراد.
في مرحلة مبكرة، أدرك الدكتور عطية أهمية التخصص الدقيق في مجال الطب الشرعي، فكان من أوائل من طرحوا وطوروا مجال طب الأذن والأنف والحنجرة الشرعي، وهو فرع غير مطروق آنذاك في العالم العربي.
في دولة الكويت، التحق بالإدارة العامة للأدلة الجنائية، ليكون أول طبيب يُباشر العمل بهذا التخصص. وقد ثمّن العميد عيد عبدالله أبو صليب، المدير العام للإدارة عام 2006، هذه الريادة بقوله:
“استشرافًا للمستقبل، أنشأنا التخصصات الدقيقة في الطب الشرعي بالكويت، وكان الدكتور عطية هو الرائد المؤسس لهذا الفرع الحيوي، مقدماً تقاريره الدقيقة وفق أعلى معايير الجودة.”
وقد أسهم هذا التخصص في:
- تعزيز العدالة من خلال تقديم أدلة طبية موثوقة في قضايا الاختناق، والاعتداءات، والإصابات الجنائية.
- تحديد نسب العجز الدائم والجزئي بدقة علمية.
- دعم التحقيقات باستخدام تقنيات متقدمة مثل بصمات الأذن وتحليل الصوت.
- إعداد تقارير طبية قانونية دقيقة تُعين المحاكم على اتخاذ قرارات عادلة.
ورغم أهمية هذا التخصص، فقد واجه تحديات كبرى، أبرزها قلة الكوادر المتخصصة، وغياب برامج دراسية متكاملة، ونقص الموارد الفنية والمخبرية. ومع ذلك، ظل الدكتور عطية مؤمناً بجدواه، وعمل على ترسيخ دعائمه بوعي علمي ومسؤولية مهنية.
مرجع علمي رائد في تخصص نادر
بلغ عطاؤه ذروته بإصدار أول مرجع علمي عربي متخصص في هذا المجال عام 2006، بعنوان: “طب الأذن والأنف والحنجرة الشرعي”، والذي وُصف بأنه يجمع بين التبسيط والدقة والحداثة. وقد حظي بإشادة واسعة من الخبراء والمختصين.
قال عنه الدكتور عبد اللطيف عبد الغني، كبير الأطباء الشرعيين في الكويت:
“وجدنا في هذا الكتاب تميزاً حقيقياً؛ إذ جاء شاملاً، مبسطًا، ومواكباً للتطور العلمي العصري.”
كما علّق الدكتور خيري الحاج أبو شرا، رئيس قسم الأنف والأذن والحنجرة بوزارة الصحة الكويتية، قائلاً:
“هذا الكتاب يعيد بناء المعرفة العلمية في مجال حساس يرتبط بثلاث من حواس الإنسان الأساسية، ويُعد عملًا رائدًا يستحق الإشادة والتقدير.”
إسهامات تعليمية ومجتمعية متواصلة
لم تقتصر إسهاماته على البحث والممارسة، بل امتدت إلى التعليم والتثقيف المجتمعي. فقد درّس في برامج التمريض والدراسات العليا، وشارك في مؤتمرات وندوات علمية وثقافية بمصر والكويت. كما ترأس القسم الطبي في مؤسسة “أخبار الشرقية” المصرية، وأسهم في تحرير مجلات طبية متخصصة، مؤكدًا دائماً على قيمة الجمع بين التجربة السريرية والبحث العلمي القائم على البينة.
إرث علمي وإنساني خالد
توفي الدكتور محمد السيد عطية في 17 مارس 2021 في وطنه مصر، تاركاً وراءه إرثاً علميًا وإنسانياً نادرًا. لم يكن تأثيره مقتصرًا على كتاب أو مهنة، بل امتد إلى العقول التي علمها، والنفوس التي ألهمها. وقد أجمع زملاؤه وطلابه على وصفه بأنه المهني الدؤوب، والمعلم المتواضع، والرائد الذي وهب حياته لخدمة الإنسان والعدالة والعلم.
ختاماً: دعوة للاستمرار
إن تأسيس تخصص “طب الأذن والأنف والحنجرة الشرعي” من خلال برامج أكاديمية وتدريبية يُمثّل خطوة واعدة في مسار الطب العربي المعاصر، ويستحق الدعم المؤسسي والأكاديمي لاستكمال البناء الذي وضعه الدكتور عطية. تخليدًا لذكراه، يجب التفكير في إطلاق برامج تدريبية متخصصة وتوسيع هذا المجال عربيًا، ليظل إرثه العلمي والإنساني حيًا في واقعنا ومستقبلنا.
*عرفتهم”: زاوية ثقافية دورية يكتبها د. غسان شحرور.

طبيب بشري حائز على شهادة الماجستير في طب الأذن والأنف والحنجرة وجراحتها، والبورد السوري، بالإضافة إلى الدراسات العليا من جامعة برمنجهام في المملكة المتحدةBirmingham, UK، وهو من الناشطين في المجتمع المدني العربي والدولي، له إسهامات طبية وثقافية وإنسانية عديدة، إلى جانب الكتابة باللغتين العربية والإنجليزية.
له عدة إصدارات في مجال الإعاقة السمعية، والبصرية، كما نشر المئات من المقالات والأبحاث في الصحة، والإعاقة، والعمل الإنساني والحقوقي وجوانب ثقافية متعددة.
شارك في تأسيس وإدارة وعضوية (الهيئة الفلسطينية للمعوقين)، (الرابطة السورية للمعلوماتية الطبية)، (الاتحاد العربي للهيئات العاملة مع الصم)، اللجنة العلمية لنقابة أطباء دمشق، وهيئة تحرير (المجلة الطبية العربي)، ولجنة الإعاقة بولاية كارولينا الشمالية للسلامة العامة، قسم إدارة الطوارئ، وعضو جمعية نقص السمع في منطقة ويك، ولاية كارولينا الشمالية، وعضو لجنة العضوية في تحالف الأطباء الأمريكي، ومستشار مؤقت لمنظمة الصحة العالمية إقليم المتوسط في القاهرة للمؤتمر الإقليمي (أفضل الممارسات في خدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات للأشخاص المعوقين)، القاهرة، مصر (نوفمبر 2007)، كما شارك في كتاب (مواضيع الشيخوخة والإعاقة)، منظور عالمي، إصدار لجنة الأمم المتحدة غير الحكومية للشيخوخة، نيويورك 2009.
(http://www.ngocoa-ny.org/issues-of-ageing-and-disabi.html)
وقد حاز الدكتور غسان شحرور خلال مسيرته على:
- درع الاتحاد العربي للهيئات العاملة مع الصم، 2000.
- جائزة الإمارات العالمية التي يرعاها الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم للعمل الطبي الإنساني عام 2002.
- درع الأولمبياد الخاص، بمناسبة تشكيل الأولمبياد الخاص الإقليمي، 1993.
- براءات التقدير والشكر من منظمات الإعاقة والتأهيل في مصر، الإمارات، قطر، تونس، والكويت وغيرها.
- منظم ومدرب (مهارات التقديم المتطورة للعاملين الصحيين والأطباء)، رابطة المعلوماتية 2006.
- جائزة نجم الأمل العالمية، للإنجازات في مجال الإعاقة، مؤتمر الأمم المتحدة لمراجعة اتفاقية أوتاوا، كارتاجنا، كولومبيا 32 ديسمبر / كانون الأول 2009.
- أختير ضمن رواد المعلوماتية الطبية في العالم وفق موسوعة (ليكسيكون) الدولية 2015،
Biographical Lexicon of Medical Informatics ،
http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4584086/