بقلم ولية أمر الطفلتين تالا وتينا
16-8- 2018 ..
كان يوماً صيفياً عادياً وبعد حمل متعب وانتظار قلق ولد لنا صغيرتان جميلتان.. ابنتانا التوأم تينا وتالا.
صحيح أن الأيام والشهور التالية كانت مرهقة إلا أنها كانت طبيعية مع طفلتين حديثتي الولادة إضافة إلى ابنة أخرى صغيرة أيضاً ولكنني كنت دائماً على أمل أن تتلاشى الصعوبات شيئاً فشيئاً… وعندما بدأنا فعلاً بالاستقرار واعتياد حياتنا الجديدة وكان توأمنا يوشك على إتمام الشهر السابع من العمر حدث شيء غير حياتنا إلى غير رجعة.
اقرأ ابضا : المتلازمات النادرة : تعريفات وحقائق
11 – 3 – 2019…
أجزم أنني لن أنسى هذا التاريخ ما حييت…فبعد أن تلقت الطفلتان جرعة من اللقاحات الروتينية وبعد عدة ساعات أصيبتا بالحمى كما هو متوقع ولكن المشهد الذي بدت عليه – في البداية- تالا كان غريباً وغير مفهوم …أذكر أنني حملتها وعيناها شاخصتان بلا حركة.. تتنفس بصعوبة و بدا وجهها مزرقاً بعض الشيء غير أننا لم نفهم ما يجري حتى والدتي التي كانت معنا في المنزل لم يسبق لها أن رأت شيئاً مماثلاً فقررنا التوجه إلى أقرب مستشفى.. وأذكر أننا لم نكد نصل إلى السيارة حتى اتصلت أمي تطلب منا العودة لإسعاف تينا بنفس الحالة.
اقرأ ايضا: دعم أسر الأشخاص ذوي المتلازمات النادرة – ج1
اقرأ ايضا: دعم أسر الأشخاص ذوي المتلازمات النادرة – ج2
وصلنا إلى قسم الطوارئ وعلى الفور بدأوا بإسعاف الطفلتين ومحاولة خفض الحرارة وأذكر أن تالا كانت فاقدة للوعي وبحاجة للأوكسجين وظننا للحظة أنها تفقد حياتها حيث أننا حتى الآن لا نفهم ما يجري حولنا حتى فرغ الأطباء من عملهم وأخبرونا أن هذه حالة ناتجة عن ارتفاع الحرارة وتسمى “تشنجات حرارية” وأنه علينا المكوث في العناية المشددة يوماً كاملاً للمراقبة عدنا بعدها إلى المنزل على أمل أن تكون مسألة عابرة فقط وألا تتكرر من جديد…. ولكنها للأسف تكررت بعد عدة أيام و مرة أخرى هرولنا إلى قسم الطوارئ ثم العناية المشددة و أجرينا جميع الفحوصات اللازمة من تخطيط دماغ إلى صورة رنين مغناطيسي وكانت جميع نتائجها جيدة و مع ذلك اقترح الأطباء البدء بالعلاج الدوائي لأن نوبات التشنج كانت متكررة و طويلة جداً قد تستمر لساعة كاملة ولا تتوقف بدون تدخل طبي وكانت في ذلك الوقت جميعها مرتبطة بارتفاع الحرارة فكان الأطباء يحاولون طمأنتنا أنها تشفى مع الزمن … أذكر أننا أمضينا ذلك الشهر كله في المستشفى نخرج منه مع تينا لنعود في نفس الليلة مع تالا كان أمراً مرهقاً و صادماً و دون أن نجد جدوى من الدواء و زيادة جرعاته .
قمنا باستشارة العديد من الأطباء أيضاً دون جدوى منهم من يزيد جرعة الدواء وآخر يقول لا داعي للعلاج ستزول مع الوقت … وبقينا على هذه الحال حوالي ثلاثة أو أربعة شهور لا أدري كم مرة هرولنا زوجي وأنا إلى قسم الطوارئ ولا أدري كم مرة دخلنا إلى المستشفى وكم مرة اضطر زوجي لترك عمله للإسعاف أو للمكوث في المستشفى.
كانت دوامة بلا نهاية أسئلة بلا أجوبة …ماذا يحدث أو إلى متى سيستمر لا أحد يملك الإجابة …
لقد كانت أوقاتاً قاسية لنا كأبوين …حجم الألم الذي واجهناه لا يمكن التعبير عنه بالكلمات … لعل أصعب المشاعر و أقساها أن تقف عاجزاً أمام ألم ولدك … طفلتان صغيرتان بلا حول ولا قوة تعانيان معاناة قاسية و نحن لا نملك من أمرنا شيئاً لإيقافها تمنينا أن يكون كابوساً نصحوا منه ولكنه للأسف كان واقعاً من الصعب تقبله و التعايش معه.
قررنا ونحن في حالة التعب والضياع هذه – السفر في إجازة إلى سوريا وهناك قمت باستشارة طبيب أطفال موثوق ومعروف من قبلنا وكان رأيه بأنه لا بد للدواء أن يحدث تغييراً ملحوظاً وإلا ما الفائدة منه.. وأرشدني إلى طبيب مختص هناك ونصح باستشارته … توجهت إلى الطبيب المختص الموجود في مدينة أخرى في أقرب موعد ممكن وكانت زيارتنا له بداية وضعنا على الطريق السليم.. حيث أنه في البداية شخَص الحالة بأنها ليست تشنجات حرارية ولكنها تشنجات محرضة بالحرارة و هو نوع من الصرع و أنها في أغلب الحالات يمكن السيطرة عليها بالأدوية وأنها تشفى مع الزمن وكان رأيه بأن الدواء المستخدم ليس هو الدواء المناسب وقام باستبداله بدواء آخر … بعد البدء بالدواء الجديد و مع متابعة الطبيب بدأنا نشعر بتحسن ملحوظ حيث بدأت مدة التشنجات تقل فبدلاً من أن تستمر نصف ساعة أو ساعة كاملة أصبحت في أغلب الأحيان تتوقف خلال 7- 10 دقائق وكان ذلك بالنسبة لنا تغييراً أعطانا الكثير من الأمل … مرت حوالي أربعة شهور عدنا بعدها إلى مكان إقامتنا في الإمارات وبقينا على تواصل مع طبيبنا في سوريا وفي تلك الفترة كان المرض بدأ بالتطور و نوبات التشنج أصبحت أكثر تكراراً و كان الطبيب يوجه بزيادة جرعات الدواء حتى وصلنا إلى الحد الأقصى المسموح به وصار لزاماً علينا إضافة دواء آخر بالإضافة للدواء الأول حيث يقتضي الأمر تجريب الأدوية حتى الوصول إلى التوليفة المناسبة التي توقف التشنجات بالكامل ولا يوجد بروتوكول علاج موحد لجميع الحالات بل كل شخص هو حالة خاصة يناسبه دواء أو مجموعة أدوية تختلف عن الآخرين.
كان الدواء الثاني المقترح إضافته دواء قوي جداً و يحتاج لوصفة طبية و للأسف لم نجد هنا طبيباً متعاوناً بشأن إعطائنا الوصفة الطبية وكنا أمام حالة يجب معها إيقاف التشنجات بأي ثمن فاتخذنا قرارنا و عقدنا العزم على العودة بالأطفال إلى سوريا لمتابعة العلاج ولم يكن قد مضى على قدومنا سوى شهرين فقط … ولكننا لم نكن نعلم أن سفرنا سيكون قبل أيام معدودة فقط من الإغلاق الكامل لحركة الطيران الناتج عن انتشار وباء كورونا في ذلك الوقت … وبقيت وقتها في سوريا مع الأولاد حوالي عشرة شهور بينما زوجي هنا في الإمارات و كانت فترة صعبة من ناحية الحالة الصحية لتينا و تالا فالمرض في تطور مستمر و لاحظنا ازدياداً في التشنجات فبعد أن كانت تنتج في الغالب عن ارتفاع الحرارة –و تينا و تالا دائمتي المرض – أصبحنا نلاحظ أن الحركة والانفعال كانا أيضاً يتسببان بالمزيد من النوبات … وبالنسبة للعلاج وبعد أن أضفنا الدواء الثاني كان هناك بعض التحسن ولكن الهدف كان إيقاف التشنجات بشكل كامل وقمنا بمحاولات لإضافة دواء ثالث ولكن جميع الأدوية التي قمنا بتجربتها كانت بلا جدوى وخلال هذه الرحلة الشاقة كان القلق يساور الطبيب بأننا أمام مرض جيني وليس صرع عادي ولم يكن هناك سبيل للتأكد إلا بإجراء فحص جيني وهو للأسف غير متوفر في سوريا ولم يكن بإمكاننا حينها السفر لإجرائه في الخارج.
وبعد عشرة شهور صعبة ومرهقة كانت تينا وتالا قد أتمتا السنتين من العمر وكنا نعاني معهما من فرط حركة كبير وتأخر في النطق إضافة إلى مشكلة التشنجات الأساسية التي شغلت كل تفكيرنا وأغفلنا بسببها عن جميع المشاكل الأخرى.
حان وقت لم شمل العائلة من جديد و العودة إلى المنزل في الإمارات والسعي لمتابعة العلاج و الأهم إجراء الفحص الجيني للوصول إلى اليقين و معرفة حقيقة المرض الذي تعاني منه ابنتانا … فمن جانبه زوجي وقبل عودتنا إلى الإمارات كان قد قام بالبحث و استشارة أحد الأطباء المشهورين هنا فكان رأيه المؤكد أننا أمام مرض جيني يسمى متلازمة درافيت _ أجرينا فور عودتنا الفحص الجيني و تأكد الأمر- وهو للأسف مرض نادر شديد الصعوبة و ليس له حتى الآن علاج شافٍ تتراوح شدته من شخص لآخر … وجميع الأدوية المستخدمة هي لمحاولة الحد من أعراضه ولحسن الحظ أن الأدوية التي كنا نستخدمها بطبيعة الحال كانت هي الأدوية المتوفرة والمستخدمة لهذه الحالة واستمر الطبيب هنا باستخدامها نفسها و زيادة جرعاتها حتى وصلنا إلى الحدود القصوى بل تجاوزناها فبدأت تظهر الآثار الجانبية للأدوية و وجدنا أنفسنا أمام مشاكل في وظائف الكبد و نقص كبير في صفيحات الدم إضافة إلى المشي المترنح الذي تسبب بمشاكل في القدمين مازلنا نعاني منها حتى الآن و بدأنا مع مرور الوقت نلاحظ تأخر التطور لدى الطفلتين منه ما هو ناتج عن الحالة المرضية و منه ما هو ناتج عن تأثير الأدوية ولكننا في الحقيقة لم نكن مدركين لحجم المشكلة الفعلية و أننا بحاجة إلى رحلة تأهيل طويلة جداً لا سيما أن تشخيص المرض كان قد تأخر جداً لما بعد السنتين من العمر .
في ذلك الوقت كانت نصيحة الطبيب لنا بالسعي للحصول على جهاز “VNS” (تحفيز العصب الحائر) لعلنا نستطيع مع الوقت تخفيض جرعات الأدوية للحد من آثارها وبدأنا رحلة سعي استمرت شهوراً وراء الجهاز المذكور المكلف جداً وبعد جهود مضنية نشكر الله الذي وفقنا في الوصول إلى أصحاب الأيادي البيضاء في دولة الإمارات الحبيبة التي مكنتنا من تركيب جهازين للطفلتين في مستشفى “توام” بمدينة العين.
بالعودة إلى رحلة التأهيل التي أدركناها متأخرين للأسف رغم معاناتنا الكبيرة مع الطفلتين من فرط الحركة الشديد وصعوبة التعامل معهما ولكن ما جعلنا حقاً غير مدركين أو غير منتبهين لأهمية التعامل مع المشاكل السلوكية كان أولاً: تركيزنا على محاولة إيقاف التشنجات فهي كانت همنا الأساسي الذي عطل حياتنا حرفياً..
وثانياً: حالة الإرهاق النفسي والجسدي الشديد التي وصلنا إليها بسبب المشكلات الصحية المتشعبة للطفلتين لا سيما الأمراض التنفسية والتهاب الرئة المتكرر الذي يتسبب بنقص في الأكسجة يستدعي المكوث في المستشفى أياماً وليالٍ حتى أن حالة تالا استدعت في إحدى المرات دخول العناية المشددة وتركيب المنفسة لمدة أسبوعين كاملين.
هذا النوع من الأمراض ليس سهلاً إطلاقاً على العائلة التعايش معه فهو يسبب مشاكل كثيرة و متشعبة و تجد نفسك غارقاً فيها لا تعرف من أين تبدأ الحل فمن التشنجات المعندة إلى المشاكل السلوكية و فرط الحركة و تأخر المهارات المعرفية إلى المشكلات الحركية و الحسية التي لم نكن نعلم عنها الكثير إلى مشكلة الاختلاط تينا و تالا غير قادرتين على اللعب مع الأطفال و الركض في الحديقة أو على الشاطئ مثل بقية الأطفال فهما عرضة لنوبة صرع في حال الانفعال الطبيعي بالنسبة لأطفال مثلهما و أصبحنا فعلاً غير قادرين على الخروج أو الاختلاط كثيراً إلا بما يناسب حالتهما الصحية في محاولة منا لتجنيبهما المزيد من النوبات التي تؤثر بدورها على تطورهما.
في العام الماضي قادتنا أقدارنا للإقامة في مدينة خورفكان الجميلة وقادت تينا وتالا إلى مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية – فرع خورفكان حيث وجدنا عائلة جديدة ووجدنا كل الدعم والحب والقبول …
في العام الدراسي الأول لهما في قسم الإرشاد الأسري وحيث أنني كنت أعلق آمالاً كبيرة على التحاقهما به أصبت بإحباط شديد لأن تجاوب الطفلتين لم يكن كما يجب …وكان عملاً شاقاً للمرشدة الأسرية … والحق يقال إنها قدمت لي الكثير من الدعم النفسي في أوقات الإحباط الكثيرة إضافة إلى ما اكتسبته من معلومات وأساليب للتعامل مع الطفلتين وتعليمهما أشياء جديدة.
والآن في سنتنا الدراسية الثانية فإن تالا انتقلت إلى الفصول الدراسية في مدرسة الوفاء لتنمية القدرات حيث تبذل معلماتها مشكورات جهوداً كبيرة معها.
بينما تينا ما زالت في قسم الإرشاد الأسري ولكن مع كثير من التطور على أمل أن تنتقل إلى الفصول الدراسية في العام القادم إن شاء الله.
بعد رحلتنا الطويلة التي شارفت على الخمس سنوات يمكنني القول إننا أصبحنا أكثر قدرة على التعامل مع حالات اليأس والتعب والإحباط التي لا بد أن نمر بها من وقت لآخر… نتعب ونيأس ولكننا ننهض من جديد … نبكي ثم نمسح دموعنا ونتابع العمل والسعي لعلنا نصل في النهاية.
مع تينا وتالا تعلمنا الكثير أيضاً … فهمنا الحياة بعمق أكثر أدركنا قيمة الوقت في شفاء الجراح وفي القبول … تعلمنا التعامل مع الواقع كما هو اليوم دون الكثير من التفكير كيف كان الأمس أو كيف سيكون الغد … تخلصت مع الوقت أيضاً من الشعور بالذنب والتقصير فأنا أدرك الآن أنني أعمل ما بوسعي وأركز على الاستمرار بالعمل..
لست أماً مثالية لكنني ما تعاملت معهما يوماً على أنهما طفلتان مريضتان غير مدركتين أنهما في عيني طفلتان ذكيتان نقيتان ودودتان.. حاولت قدر الإمكان إعطاءهما الفرصة للاستقلال بنفسيهما وتعليمهما في كل فرصة ممكنة.. أصبحت اليوم أدرك تماماً أن نظرتي لهما هي من يحدد نظرة الآخرين لهما … قبولي لهما هو ما يجعلهما مقبولتين من الآخرين …
عندي أمل كبير وإيمان بأن القادم سيحمل لهما الأفضل بإذن الله.. وآمل حقاً أن يأتي ذلك اليوم الذي تنتهي فيه معاناتهما وعندها سننظر إلى الوراء ونفتخر بكل الصعوبات التي تجاوزناها معاً… وإلى ذلك الحين سنبقى نعمل … على أمـــــــــل….