(ممتنة لكل موقف وهبني معنى، لكل اقتباس وجدت نفسي فيه، لكل مشهد عرًفني على نفسي، لكل كتاب غير نظرتي للأمور، لكل عابر في حياتي جعلني أحب نفسي أكثر، ولكل سقطة عالية قوتًني أكثر مما تصورت، ممتنة لكل شيء غيرني للأفضل).
بهذه العبارات الجميلة استمدت بطلة قصتنا قوتها وتحديها لكل ظروف الإعاقة، هذه العبارات التي سجلتها على حائطها في موقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك)، سعت بأن تكون ناشطة في حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة برغم كل الظروف التي واجهتها وخاصة ما تفرضه العادات والتقاليد المجتمعية، ونظراتهم القاصرة تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة، فما بالنا إذا كانت فتاة ومن ذوات الإعاقة.
إنها عُلا عمار (22 سنة، إعاقة حركية)، حاصلة على شهادة الثانوية العامة. تقول عُلا: (تعامل أهلي معي ومساندتهم أعادت لي الثقة بنفسي فأبي هو السند الذي وقف إلى جانبي منذ إصابتي بالإعاقة بكلماته المحفزة والحانية، أجده يفخر بي دائماً وكذلك هي أمي الغالية وأخوتي أحاطوني بكل الحب والرعاية والدعم والحرص، ومنحوني الثقة التي هي اعتزاز وفخر لي، بل وسام أحمله على صدري أينما اتجهت، أختي الحبيبة أقرب الناس إلى قلبي فلا تخرج إلى مكان دوني على الرغم من أنها متزوجة وتعيش في سكن مستقل عنا).
دعونا نتعرف أكثر على عُلا من خلال هذه الزوايا التي نصحبكم فيها موجزين لكم فيها أهم المحطات التي مرت عليها ذكريات علا.
قصة عُلا مع الإعاقة
كنت طفلة عادية مثل أي طفلة تلعب وتمرح أكبر همها كيف تضفر شعر عروستها.. تفرح بعلبة شوكولاته وتزعل إذا أمها رفضت أن تأخذها معها في مشاويرها.
وتسهب عُلا في الحديث قائلة: في التاسعة من عمري كان اليوم الذي غيّر مجرى حياتي، عرس في حارتنا كنت مبتهجة به، تجمع المعازيم الرجال تحت بيتنا في شارعنا وكان صوت مكبرات الصوت عالياً، الطبول تقرع والمزمار يلهب الأجواء بالحماس وانا متلهفة.. أجري إلى الشباك أحاول رؤية الاحتفال، كان جسمي الصغير وطولي لا يسمح لي بالوصول إلى الشباك ولم أستطع مشاهدة الزفة في الشارع، وبفضول طفلة لا تفكر بالعواقب تركت الشباك وجريت بسرعة باتجاه سقف بيتنا (سطح البيت) وأقدامي تسبقني قفزاً على الدرج.
كانت تخت سقف بيتنا غرفة مع شباك. لم أفكر كثيراً بل حاولت تسلق الشباك الذي يطل على الشارع لأصعد منه إلى سطح الغرفة حيث يكون المنظر أوضح، وأصوات المزمار وطبل رقصة البرع اليمني تزيد من حماسي للتسلق، حتى لا يفوتني الحدث، تعلقت بماسورة المياه الركيكة بجانب الشباك، كان مكاني خطراً جداً وأي حركة مني كانت كفيلة بسقوطي، ولكني كنت طفلة وكان جل تركيزي واهتمامي هو أن أستمتع بعرس حارتنا، كانت عيوني في انبهار بما أراه أسفل الشارع.. الرجال وهم يدورون على وقع الطبل، والجنابي بأيديهم تلمع فوق رؤوسهم بحركات رشيقة، كان هناك الكثير من الأطفال يلعبون ويختبئون بين حشود التجمع وأصوات الطماش (المفرقعات النارية) والضوضاء.. كنت متشبثة بماسورة الماء بينما عيناي تلاحق تحركات الأطفال، وكنت أشعر بأقدامي تجري معهم وتلعب، أخذني الخيال معهم وأنا في غاية الانبهار، وكانت ابتسامة فرحتي حينها هي كل ما أتذكره الآن، ولربما كانت آخر ابتسامة ابتسمتها وأنا طفلة سليمة من الأذى، أستطيع أن أسميها ابتسامة النصر لأني قمت بشي عظيم.
وفجأة انكسرت ماسورة الماء تحت ثقل جسدي المتعلق فوقها حسيت نفسي أني افلت معها، حاولت التمسك وأنا أصرخ، أغمضت عيوني من الخوف، ولم أعد قادرة على التمسك بجدار الشباك، أفلت يداي وأنا أشعر بثقل جسمي يهوي وصراخي يختنق ودمي يتجمد، حصل كل شيء في لحظات خاطفة كنت اهوي بسرعة رهيبة، وأنا أقول لنفسي سينقذونني كل هؤلاء الأشخاص من الحضور قد ينتبه أحد ويمسك بي قبل أن اصطدم بالأرض، لحظات لم أعد أشعر بأي شي حولي سوى جسمي وهو يهوي نحو الأرض، وفي ثواني أحسست بألم رهيب عند ارتطامي بشجرة تحت بيتنا أصبت بجروح ونزفت بشكل كبير جدا، أسعفني أبي إلى أكثر من مستشفى، وكانوا يرون جروحي وكمية الدم الذي أنزفه، فيرفضون استقبالي إلى أن وصلنا إلى أحد المستشفيات كنت حينها فاقدة للوعي تماما، أفقت وأنا في العناية المركزة غير مدركة لما حصل من حولي وكان أبويا يجلسان إلى جواري، أمي تمسك بيدي والدموع تنهمر من عينيها، الحيرة التي رؤيتها على وجه أبي.
عُلا.. وبداية معرفتها بالإعاقة
مكثت 15 يوم في المستشفى وبعد ما اجري لي الأشعة المقطعية تبين أني أصبت بكسر في العمود، وهذه الإصابة سوف تفقدني المشي بقية حياتي، أخفي أبي عليا هذا الخبر، ولكن سمعت فاجعة الخبر أثناء ما كان أبي وأمي يتحدثان في بلكونة غرفة المستشفى واستمعت إليهم ضناً منهم أني نائمة، كان أبي يقول لأمي كيف يمكن إخباري باني لن أستطيع المشي مجدداً وباني أصبت بالشلل، طبعاً كنت صغيره لم أكن مدركة ماذا يعني شلل، وبحسب إدراكي أن ذلك سيكون لفترة وسعود أسير على قدمي، قلت لهم أنا استمعت إليكما، حاولوا التخفيف عليا بعدد من العبارات (عادك صغيره وبتوقفي وتمشي) شجعوني، وكان أملي كبير أني سوف أتماثل للشفاء مع مرور الوقت.
عُلا.. والمدرسة
خرجت من المستشفى وكانت لدي الرغبة في الدراسة وخاصة وأنا أرى أخوتي يذهبون للمدرسة بينما أنا جالسة في البيت أرغب في الدراسة، كنت أشاهد إخواني يذهبون إلى المدرسة وأنا جالسة في البيت واتسأل متى أذهب إلى المدرسة أنا أريد أن أدرس.
كان أهلي كل يوم يقولوا لي بالنسبة لمدرستك لم تبدأ بعد، وكنت على أمل بالعودة إلى المدرسة لكن الحقيقة التي أخفاها أبي، أنه يقدم لي للدراسة وعندما يخبرهم إني على كرسي متحرك كانت المدارس ترفض قبولي وكانت صدمة كبيرة لي، ومع البحث المستمر التحقت بإحدى المدارس، كان فيها درج وكنت أعاني كثيراً، وصلت للصف التاسع وكانت آخر مرحلة دراسية لي بتلك المدرسة لوجود الصفوف الثانوية فيها في الدور الثاني ولم تقبلني المدرسة للدراسة فيها، وأهلي أخفوا عني هذا الشيء كانوا يخبروني أن المدرسة متوقفة عن الدراسة فيها، كلها أيام وتروحي تدرسي بينما كانوا يبحثون لي على مدرسه ثانيه تقبلني، وتم نقلي لمدرسة أخرى لم يكن فيها درج وكملت فيها دراستي الثانوية.
شعور غريب..
والحديث لعُلا… مع كل يوم كان يمر يزاد إدراكي باني سوف أضل عاجزة طول الوقت وهذا هو قدري وكنت أتسال دائما لماذا هذه المعاناة التي نشعر بها نحن ذوي الإعاقة هل لأنه ليس لنا قيمة في المجتمع، لماذا لا يتم مراعاة الإعاقة التي تواجهنا في الطرقات والأماكن التعليمة والخدمية، لماذا لا يكون لدينا ممرات للكراسي المتحركة مثل الدرج لعامة الناس، لماذا لا يكون لدينا تسهيلات وامتيازات كبقية الناس، أليس ذلك حق من حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، لماذا أواجه صعوبة في إقناع مدير المدرسة في نقل الصف من الدور الثاني إلى الدور الأول.
عُلا.. مواقف لا تنسى
طبعا أول مرة أحس فيها بشعور العجز، وإني عاجزة كان ذلك في إحدى الأيام وأنا ذاهبة إلى المدرسة فسقطت من على الكرسي المتحرك، ومن غير شعور أخذت بالبكاء والصراخ، وأخذت أضرب على قدمي وأتحدث اليهن بقولي (قومين) تحركين وما كان يوجد أحد يساعدني عندها، فعرفت ماذا تعني كلمة شلل، كنت أبحث عمن يساعدني ونظرات المارة تشخص إلي، حتى أتت امرأة وساعدتني، وقتها انتابني شعور لا أستطيع ان أصفه شعور يوجع طبعا.
طموحاتي
أتمنى إكمال دراستي الجامعية في مجال الأعلام من أجل إيصال رسالتي لكل إفراد المجتمع، مفادها أننا مواطنين لنا حقوق متساوية غالباً ما يتم تجاهل معاناة الأشخاص ذوي الإعاقة، وتعتبر اليمن من الدول الموقعة على اتفاقية حقوق ذوي الإعاقة ولدينا قوانيين تهدف إلى حمايتنا، لكننا نظل مستبعدون برغم ما نمتلكه من إبداعات ومواهب،
حُلمي أن أسس مؤسسة لذوي الإعاقة، أستطيع من خلالها تقديم المساعدة لهم، ونكون سند لبعضنا
حُلمي إقامة دورات في تنمية قدرات ذوي الإعاقة، ومكان يحتويهم، هناك كثير من ذوي الإعاقة مبدعين بحاجة إلى من يقف معهم لتنمية إبداعاتهم.
بهذه الطموحات لخصت عُلا عمار حكايتها معنا لتكون رمز للمعالي والتحدي.