بقلم رنا ياسين
في تمام الساعة 12:00 من ظهر يوم الثلاثاء الموافق 19/12/2023 رنَّ جرس الهاتف الخاص بوالدتي، أجابت قائلةً بصوت خافتٍ مليء بالدموع في الغرفة المجاورة ” نعم …. سنحضرها إلى المستشفى الآن، لكن أرجو التمهيد لها، فهي ابنتي الوحيدة وليس عندي من هو أغلى منها “. وبالرغم من أن المنزل كان يضج بالعائلة والأصدقاء! سادته حالة من الصمت المطبق تكاد تسمع من خلاله أنفاس الجالسين.
وعند الوصول إلى المستشفى، لم أشعر سوى بتصاعد ضربات قلبي، كوتيرة حدوات أحصنة متراكضة في سباقٍ للخيول، إلى أن رأيت لوحة كُتب عليها ” قسم الأورام “. لم أدرك أين أنا! إلى أن جلست معي طبيبة الأورام قائلةً:
” عزيزتي، ظهرت نتائج الخزعة ولابد أن نبدأ العلاج فوراً “
من شدة الصدمة قلت لم أفهم؟ أرجو التوضيح..
وردت الطبيبة بأن لدي سرطان في القولون وهو من الدرجة الرابعة والأخيرة!
هنا أدركت ما معنى عبارة ” وتوقف الزمن “
نعم، لقد توقف الزمن، ولم أشعر سوى أنني أغمضت عيني، وتمت عملية الاسترجاع الذهني أو ما يطلق عليه باللغة الإنجليزية ” flash back “ لشريط حياتي كاملةً منذ يوم ولادتي حتى تلك اللحظة! وحصل ما هو متوقع، عدم تقبلي نهائياً ما قالته الطبيبة المختصة، لا بل إنها “بروفيسورة” في طب الأورام، أي أنها على دراية وخبرة كافية بما تقوله، وكان جوابي بكل ما تحمله الصدمة من ألم وقسوة:
” هل تدركين أنك في عشر دقائق قلبتِ حياة إنسانة رياضية، نظامها الغذائي صحي وسليم، محبة للحياة، 180 درجة، فأصبحت حياة يأس وإحباط؟!
في بادئ الأمر، رفضت العلاج وقلت بلغتي العامية:
” طول مانا واقفة وربنا مديني القوة إني أخرج على رجلي من عندك لا يمكن أرجع هنا تاني “
بالفعل غادرت المشفى مصحوبة بنوبة من الغضب والصراخ والبكاء!
حاول الأهل والأصدقاء تهدئتي لكي أتراجع عن قراري والبدء على الفور بالعلاج للمحافظة على حياتي، ولكنني لم أتقبل الأمر، لم أسمع أي شيء …..
وصلت إلى البيت، جلس معي خالي وهو طبيب وجراح قلب، قام بتهدئتي تماماً وشرح لي بأنها مجرد خلايا نشطة بشكل مبسط للغاية وأني قادرة على القضاء عليها.
بعد يوم طويل مر علينا كما لو أنه عام معتم لم يسبق أن دخل عبر نافذته ضوء النهار، قمت بصلاة قيام الليل وكانت قبل أذان الفجر بساعة وكنت أدعو الله تعالى بشيء واحد فقط … بأن يرسل لي إشارة على الطمأنينة للبدء بالعلاج..
في غرفتي مذياع صغير استمع من خلال أثيره إلى إذاعة القرآن الكريم، ما هي إلا دقائق معدودات حتى جاء صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد رحمه الله وهو يرتل من سورة “الشعراء” ..
” وإذا مرضتُ فهو يشفين، والذي يـميتني ثم يحيين “
صدق الله العظيم..
ومن هنا، كأن الله سبحانه وتعالى أنزل في قلبي قوة وسكينة الدنيا، وبدأت مرحلة العلاج، وأي علاج؟! إنه العلاج الكيماوي المكثف لأربعة أيام متواصلة في المستشفى (دون أي توقف)!
وعند البدء بمرحلة العلاج قدر الله بمشيئته أن يرزقني باختبار أصعب، وحدث ما ليس متوقعاً، تسمم في القولون بسبب انسداد الدعامة، علماً أن عملية الدعامة كانت قبل يوم الواقعة فقط بــ 24 ساعة، أي أنني أجريت عمليتين متتاليتين خلال 48 ساعة!
الألم الذي أدركته وقتها، لا يتحمله أو يستوعبه أي عقل بشري فهناك بالفعل ألم أصعب من ألم الكيماوي وألم الولادة الطبيعية، وليس هناك ما يسكنه غير تدخل جراحي فوري.
حين الوصول إلى غرفة العمليات لم أسمع غير بكاء وصوت أقدام الكادر الطبي وهم يتراكضون لإحضار الأجهزة للتحضير للعملية الجراحية، ومناقشات الأطباء مع الأهل بأنه لابد من عمل عملية تحويل مسار للقولون واستئصال جزء معين في حالة لا قدر الله حدث انفجاره، وتوقفت وظائف الكلى.
رغم هذه الآلام والأصوات والبكاء، كنت في العالم الموازي ولم أقل غير جملة واحدة، بعد أن قمت بجمع كل قوى الأرض في عقلي الباطن ” يا رب أنا عبدك وأعلم بأنني لن أهون عليك وقد سلمت أمري لك تمام التسليم”.
وعند الاستيقاظ في تمام الساعة 7:00 صباحاً، أشرقت الشمس وبدأت رحلة ” قوة الآن …ما بين الرضا واليقين “..
لو يعلم الإنسان قوة الجسد واتصاله بعقله الباطن.. حرفياً! لن يمرض، وكلامي هذا ليس من تجربتي الخاصة فقط، بل استناداً لما قاله الكاتب العالمي ” جابور ماتيه ” في كتابه ” عندما يقول الجسد لا “، حيث أشار عالم النفس الأمريكي “روس باك “:
اعتاد الأطباء قبل ظهور التكنولوجيا الطبية الحديثة وعلم العقاقير الاعتماد على تأثير ” الدواء الوهمي “ (1) وهو ما يسمى ” البلاسيبو ” وهي مادة خام تعطى للمريض مع إيهامه نفسياً بأنها علاج فعال للمرض، وعلى الرغم من عدم فعاليتها الحقيقية ، فإنها كثيراً ما تحدث تأثيراً دوائياً في الجسم.
لك أن تتخيل أن ما كان عليهم فقط بأن يلهموا كل مريض بالثقة في قدرته الداخلية على الشفاء، ومن أجل نجاح العملية، كان على الطبيب الإنصات إلى المريض، وبناء علاقة معه، وكان عليه أيضاً أن يثق بحدسه.
رحلتي الشخصية اخترت عنوانها ” قوة الآن … ما بين الرضا واليقين “، لأنني بالفعل شعرت بها، وليس من العيب أن أقول إنني لم أكن على دراية كاملة بالفرق في المعنى بين الرضا واليقين،
(فكلنا راضون! … ولكن ليس بالسهل الوصول إلى مرحلة اليقين) …
ونعم … ها أنا يا سادة محاربة سرطان من الدرجة الرابعة بامتياز، ومن طريحة سرير مرضي لمدة عام كامل إلى إنسانة عادت إلى نفسها وأهلها وعملها وشغفها الذي كان من أهم العوامل في رحلتي، ((النفسية)) ….. كم من الطاقات الإيجابية والدعوات التي لا حصر لها، فليشهد الله من بعد عظمته وقدرته بأن بيئة عملي كانت سبباً من أسباب التعافي.
((قوتك الآن هي يقين قلبك مخلصاً تمام الإخلاص لله بأنه وحده قادر على كل شيء، واقترانه بعقلك الباطن وجسدك بأنه مصنع لصنع المعجزات، ونعم …. سأكمل علاجي إلى ما لا نهاية بالرغم من كل التحديات وأعراض الكيماوي وآلامه، وسقوط الشعر، ولكن لدي رحلة وحياة ورسالة وهبها الله سبحانه وتعالى لي من جديد وأنا على عهده بأني صنعته وعبده الذي لن يكل أو يمل إلى أن يصل إلى الشفاء التام بأمره سبحانه وتعالى ….
صحتك عزيزي القارئ هي كنزك واستثمارك، فهي النعمة التي يجب أن تستشعر بها في كل ساعة، ودقيقة، بل في كل ثانية …. هناك ما ستدركه بأن الحياة لا تزال تستحق العيش ما دمت تبتسم، وستبقى جميلة كما يسرها الله لنا.
بقلم / رنا ياسين
(1): – المرجع من كتاب (when the body says no)، للكاتب العالمي GABOR MATE.