في زمن الحرب عندما تكون معلوماتنا على الأغلب أحادية الجانب ونفوسنا قريبة قرباً شديداً إلى نقطة المركز للتحولات الهائلة التي تمت بالفعل والتي بدأت تجري نكون عاجزين عن استيعاب أهمية الانطباعات المتزاحمة وغير عارفين للقيمة التي نعلقها على الأحكام التي نكونها حيث أننا مكرهون على الاعتقاد بأنه لم يسبق أبداً أن حدث شيء أشد تدميراً، حتى العلم نفسه يفقد حياديته المبرأة عن الهوى فيسعى خادموه إلى الحصول منه على أسلحة يسهمون من خلالها بإلحاق الهزيمة بالعدو، فعلى سبيل المثال يعلن عالم الانثربولوجيا (علم الإنسان) أن الخصم دنيء ومنحل والطبيب العقلي ينشر تشخيصه لمرض العدو العقلي أو الروحي، لكن ربما كان إحساسنا بهذه الشرور المباشرة قوياً بدرجة غير متناسبة ولا يحق لنا أن نقارنها بشرور أزمنة أخرى لم نكابد تجربتها.
في هذه الأزمنة يشعر الفرد غير المنضوي في القتال أنه واع باختلال الاتجاه وبكف في قواه ونشاطاته وهو سيرحب بأي إشارة مهما كانت طفيفة قد تمكنه من اكتشاف ما هو الخطأ عنده على الأقل، وهنا لا بد من التمييز بين اثنين من أكثر العوامل قوة في الكدر الذهني الذي يشعر به الأشخاص غير المقاتلين ويكون الصراع ضده بالغ الصعوبة، وهذان العاملان هما: التحرر من الأوهام التي أحدثتها الحرب والموقف المتغير إزاء الموت الذي تفرضه شأنها شأن كل حرب أخرى.
التحرر من الوهم!!
في الحديث عن التحرر من الوهم: يعرف الجميع الضرورة البيولوجية والنفسية للمعاناة في اقتصاديات الحياة الانسانية والتنديد بالحرب حيث يتطلع الجميع بإخلاص نحو إيقاف جميع الحروب، لكن، الحروب لا يمكن أن تتوقف ما دامت الأمم تعيش تحت ظروف على مثل هذه الدرجة من الاختلاف وما دامت قيمة الحياة الفردية تحسب بطرق على مثل هذه الدرجة من التباين وما دامت العداوات التي تقسم البشر تمثل قوى غريزية في العقل على مثل هذه الدرجة من القوة، ومن هنا جاء اكتشاف أن الحروب بين الشعوب ستشغل البشرية فترة طويلة من الزمن.
عندما تندلع الحرب التي رفضنا أن نصدق اندلاعها تكون قد جلبت معها التحرر من الوهم، والحرب هدر للدماء وفرصة لتحقيق الدمار الذي تزداد مساحته مع الكمال المتزايد على نحو هائل لأسلحة الهجوم والدفاع، الحرب تستخف بكل تلك القيود التي تعرف باسم (القانون الدولي) والتي التزمت الدول بمراعاتها زمن السلم، والحرب تتجاهل حقوق الجرحى والهيئات الطبية والتمييز بين القطاعات المدنية والعسكرية وحقوق الملكية الخاصة، إنها تدوس تحت أقدامها في غضب أعمى كل ما يصادفها في طريقها كما لو أنه لن يكون هنالك مستقبل ولا نوايا طيبة بين البشر بعد انتهائها، إنها تخرق كل روابط الزمالة بين الشعوب المتصارعة وتهدد بترك إرث كبير من المرارة من شأنه أن يجعل من المستحيل ـ لزمن طويل ـ أي تجديد لمثل هذه الروابط.
إن الأمم تمثلها إلى حد ما الدول التي كونتها هذه الأمم وهذه الدول تمثلها الحكومات التي تديرها ولدى الفرد في أي أمة معينة خلال الحرب فرصة رهيبة لإقناع نفسه بما يمكن أن يصدمه في زمن السلم بأن الدولة تحرم على الفرد ممارسة الظلم لكنها في زمن الحرب تسمح لنفسها بممارسة كل ظلم يمكنها ممارسته وكل فعل عنيف من شأنه أن يلحق العار بالإنسان الفرد، إنها لا تمارس فحسب الحيل الخداعية المقبولة وإنما تمارس أيضاً الكذب والخداع المتعمد، حيث تنتزع الدولة أقصى درجات الطاعة والتضحية من مواطنيها لكنها في الوقت نفسه تعاملهم كأطفال من خلال الاحتفاظ بالسرية المطلقة والرقابة على الأنباء والتعبير عن الرأي الأمر الذي يجعل أرواح الأفراد مقهورة فكرياً لا حول لها تجاه كل تحول غير موات للأحداث وإزاء كل شائعة مغرضة، إنها تتنصل من الضمانات والعقود التي كانت قد كونتها وتعترف اعترافاً سافراً بضراوتها وشهوتها للسلطة وتدعو الفرد الخاص إلى تبنيها باسم النزعة الوطنية.
ولعل من الملاحظ أن تصرفات الأفراد بشكل عام خلال الحروب تكون مليئة بالعنف والكذب والاحتيال وغيرها من الممارسات السيئة التي كان من المستحيل أن نصدق إمكانية صدورها عن هؤلاء الأشخاص، إن الشعور بالخزي والتحرر المحزن من الوهم فيما يتعلق بالسلوك غير المتحضر لمواطني بلداننا في الحرب يظهر أمرين غير مبررين، فقد بنينا على وهم سلمنا أنفسنا له وفي الواقع إن أبناء أوطاننا لم ينحدروا إلى الحد الذي نخشاه لأنهم لم يرتفعوا أبداً إلى المستوى العالي الذي كنا نعتقده وأيضاً يساهم إبطال الشعوب والدول لكوابحها الأخلاقية في السماح للأفراد بالتخلص من الضغط الشديد للحضارة بحيث تمر الغرائز التي تكبح جماحها بإشباع عابر.
على الرغم من ذلك يمكننا أن نحقق نظرة أعمق من هذه في التغير الذي تحدثه الحرب في نفوس الناس وأن نتلقى تحذيراً ضد إلحاق الظلم بهم، ذلك أن ارتقاء الذهن يبرهن على صفة خاصة لا توجد في أي عملية تطور أخرى، فعندما تنمو القرية وتصبح مدينة وعندما ينمو الطفل ويصبح رجلاً فإن القرية والطفل يصبحان مغمورين في المدينة وفي الرجل، وتستطيع الذاكرة وحدها أن تتبع أثر الملامح القديمة في الصورة القديمة والواقع أن المواد أو الأشكال القديمة قد تم تخطيها واستبدلت بمواد جديدة، ومن الضروري التأكيد على أن مظاهر التخلف والانحطاط التي دفعت الحرب إليها أفراد الشعوب المنخرطة فيها هي ظواهر قد تكون ثانوية جاءت نتيجة لإثارة انفعالية ومقدر لها ( كما نأمل) أن تختفي مع نهاية الحرب.
عندما يعود أبناء وطننا إلى الفهم مرة أخرى سيسهل علينا أكثر أن نحتمل التحرر من الوهم لأننا سندرك أن المطالب التي نفترضها ينبغي أن تكون أكثر تواضعاً، وربما كانت الأمم تكرر مسار ارتقاء الفرد ولا تزال تمثل اليوم مراحل بدائية للغاية في تنظيم وتشكيل وحدات أكبر، وعلى ما يبدو لا تزال الأمم تطيع أهواءها المباشرة بدرجة من السهولة أكبر بكثير مما تطيع مصالحها، أما لماذا يتعين على الشعوب أن تزدري وتنفر وتبغض بعضها فهذا ما لا يجد له فرويد أي سبب!!!
الموقف إزاء الموت
العامل الثاني الذي يحمله فرويد مسؤولية الإحساس الراهن بالغربة في هذا العالم الذي كان يوماً جميلاً وملائماً هو الاضطراب الذي يقع في الموقف إزاء الموت فقد كان هذا الموقف أبعد ما يكون عن الاستقامة لأننا كنا مستعدين للاعتقاد أن الموت هو النتيجة الضرورية للحياة وأن كل فرد يدين للطبيعة بدين وعليه أن يتوقع سداد الفاتورة، باختصار الموت طبيعي، لا يمكن إنكاره ولا يمكن تفاديه، ومع ذلك فقد كنا معتادين على الحياة كما لو أن الأمر ليس كذلك فقد كنا نبدي ميلاً لا يمكن أن نخطئ في إدراكه لركن الموت على (الرف) وأن نزيله من الحياة، لقد حاولنا إخراسه والمقصود هنا هو موتنا نحن حيث أن موتنا أمر لا يمكن تخيله وكلما حاولنا ذلك ندرك أننا نعيش كمشاهدين ومن هنا استطاعت مدرسة التحليل النفسي المجازفة بالتأكيد بأنه لا أحد يعتقد في أعماقه بموته الشخصي، أو يمكن أن نقول الأمر نفسه بطريقة أخرى، كل واحد منا ـ في اللاشعور ـ مقتنع بخلوده الشخصي.
الموقف إزاء موت الأحبة والأقرباء يصحب معه انهياراً كاملاً للشخص فلا يمكن لأحد أن يحل مكان الأب أو الأم…. إلخ، عندئذ ترقد آمالنا وفخرنا وسعادتنا معه في القبر ولن يعزينا شيء ونبدو كما لو كنا ننتمي إلى قبيلة (الآسرا) التي يتعين أن يموت الواحد فيها إذا مات أحد أحبائه، ولكن لموقفنا إزاء الموت أثره القوي على حياتنا، فالحياة تفقد أهميتها حينما لا يتم التعرض للخطر فتصبح سطحية، ومن الغني عن القول إن روابطنا الوجدانية وشدة حزننا غير المحتملة تجعلنا لا نميل إلى جلب الخطر لأنفسنا ولأولئك الذين ينتمون إلينا ولكن ذلك لا بد منه في بعض الأحيان وإلا لما كان الطيران الآلي والرحلات إلى البلدان البعيدة والتجارب التي تدخل فيها مواد متفجرة، لا بل وصل الأمر عند عصبة الهانز (اتحاد التجار في المدن الألمانية في العصور الوسطى) أن يكون شعارها: من الضروري أن تركب البحر وليس من الضروري أن تعيش.
ونتيجة حتمية لهذا كله يتعين علينا أن نبحث في عالم الرواية والأدب عن تعويض عن فقر الحياة، فهناك لا نزال نجد أناساً يعرفون كيف يموتون، بل هم في الحقيقة قادرون على إنهاء الحياة، وهناك فقط بإمكاننا أن نستمتع بالظرف الذي يجعلنا قادرين على ترويض أنفسنا على الموت محتفظين بوجودنا في الحياة دون أن يمسه شيء.
في الحرب لا ننكر الموت أو نتجاهله فنحن مضطرون لأن نؤمن به فالناس يموتون حقاً ولم يعودوا يموتون واحداً بعد آخر بل يموت الكثيرون منهم في وقت واحد، وفي الحرب لا يعود الموت عرضياً وتصبح الحياة مثيرة للاهتمام من جديد، تستعيد الحياة أهميتها كاملة وربما حان الوقت لأن نفهم هذه العبارة القاسية: إذا اردت احتمال الحياة، فلتكن مستعداً للموت.
المصدر:
كتاب أفكار لأزمنة الحرب والموت، تأليف: سيغموند فرويد، ترجمة: سمير كرم، الطبعة الثانية 1981، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان.
حازم ضاحي شحادة
- بكالوريوس في الصحافة / جامعة دمشق
- صحفي في جريدة الوحدة السورية سابقاً
- صحفي منذ عام 2007 في قسم الإعلام / إدارة الاتصال المؤسسي في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية.
- كاتبٌ في مجلة المنال الإلكترونية
الخبرات
- التطوع والعمل سنوياً منذ العام 2008 في مخيم الأمل الذي تنظمه مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية حيث قامَ بتحرير أخباره أولاً بأول.
- التطوع والعمل منذ العام 2008 في مهرجان الكتاب المستعمل الذي تنظمه المدينة بشكل دوري وتحرير أخباره أولاً بأول.
- المشاركة منذ العام 2007 في ملتقى المنال الذي تنظمه المدينة بشكل دوري وتحرير أخباره.
- المشاركة في ملتقى التوحد (خارج المتاهة) الذي نظمته مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية في أبريل من العام 2015 وتحرير أخباره أولاً بأول.
- المشاركة في مؤتمر التدخل المبكر الذي نظمته مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية في يناير من العام 2016 والمساهمة في تحرير أخباره أولاً بأول.
- المشاركة في مؤتمر التقنيات المساندة الذي نظمته المدينة في مارس من العام 2017 وتحرير أخباره أولاً بأول.
- المشاركة منذ العام 2008 في حملة الزكاة التي تنظمها مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية سنوياً وتحرير أخبارها أولاً بأول.
- لا بد من الإشارة إلى عشرات وعشرات الفعاليات والأنشطة والزيارات التي تنظمها مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية ويقوم بتحرير أخبارها أولاً بأول.
- كما لا بد من الإشارة إلى أن 80 في المائة من الأخبار المنشورة عن مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية في مختلف الصحف والمواقع منذ منتصف العام 2007 وحتى يومنا هذا هي من تحريره.
المؤلفات
- أديبٌ سوري يكتبُ في الصحافةِ العربيةِ منذ عشرين عاماً
- صدر له حتى الآن:
- المبغى / مجموعة قصصية ـ دار آس ـ سوريا
- اختلافٌ عميقٌ في وجهات النظر / مجموعة قصصية ـ دار آس ـ سوريا
- أيامٌ في البدروسية / مجموعة قصصية ـ دار آس ـ سوريا
- فوق أرض الذاكرة / مجموعة قصصية. دار آس سوريا
- أوراق نساء / 2012 ـ ديوان . دار بصمات ـ سوريا
- نشرت العديد من قصصهِ في مجلات وصحف ومواقع إلكترونية سورية وعربية منها
- (مجلة الآداب اللبنانية) (مجلة قاب قوسين) الأردنية (مجلة ثقافات الأردنية) (مجلة انتلجنسيا التونسية) (جريدة الوحدة السورية)