بقلم الدكتور علي صابر حسن
لقد كانت مختلفة، إنها الطفلة سوسن ذات الإثني عشر ربيعاً. لي ابنة أخت في نفس العمر، ولكن سوسن تختلف عنها. فابنة أختي تتحدث مراراً وتكراراً عن أي شيء تقريباً. لكن سوسن تظل صامتة طوال معظم مناقشاتنا. وعندما يتحول النقاش إلى رياضة التنس تهب في حيوية لتقول (سأحترف لعبة التنس يوماً ما) وتؤكد ذلك بثقة واضحة، وعندما نتكلم عن المدرسة، فتكتفي بالقول إن المدرسة مملة، رغم أنها لا تقرن التنس بالضجر أبداً.
عندما سألتها (ما هي مهارتك في اللعب؟)، قالت (لقد هزمت والدي كثيراً، وهو يعتبر نفسه لاعباً جيداً) واستطردت في محاولة لوصف طريقة تصنيف لاعبي التنس. وفي هذه اللحظة بدت مفعمة بالحيوية، وهنا سألتها عن الرياضات الأخرى التي تجيدها، فقالت: الكرة الطائرة، ولكنها عقبت بأنها لعبة جماعية، ولهذا فهي تحب التنس أكثر، لأن النتيجة ستتوقف في النهاية على مدى مهارتها في اللعب وليس على اعتبارات أخرى.
سألتها: هل تمارسين اللعبة كثيراً؟ أجابت: إنهم يسمونها ممارسة، ولكنها بالنسبة لي متعة، وانا أحب اللعب.
وقد سألني والد سوسن إذا كنت سأرى ابنته لجلسة واحدة، فقد كان مشغولاً باحتمال وجود مشكلة لديها، وأشار بالتحديد لتخوفه من حالة (ضعف الانتباه) التي قرأ عنها في الجرائد، مضيفاً أن الكثير من مدرسيها طلبوا منه ضرورة عرضها على طبيب، وأضاف:
– تجد سوسن صعوبة حقيقية في البقاء منتبهة ومهتمة بما يقال في الفصل، أرجو أن تجلس معها لبعض الوقت وتتحدث إليها فربما ساعدتني على فهم هذه الطفلة التي عجزت عن فهمها، فمنذ بدأت تحبو وأنا متعجب من حالها، ولكني لم أرد إرجاع ذلك إلى حالة مرضية أو عصبية بعينها خشية أن توصم بها، إلا إذا كانت تلك الحقيقة والواقع.
وحددنا الموعد، وكانت سوسن في مكتبي بعد أسبوع، وقد كانت هادئة، ليس معي فقط، بل على ما يبدو مع معظم الناس. لكنهم يتحدثون عن اختفاء هذا الهدوء عندما تكون في ملاعب الكرة والتنس والحدائق أثناء العطلات أو عندما تتحدث عن التنس. فقد كانت رياضية بالطبيعة والسليقة وكانت تتمتع بلعب أي مباراة، وعندما تراها لا تتخيل أنها نفس الفتاة الصغيرة التي تتململ ولا تستطيع التركيز داخل الفصل.
عندما تكلمنا عن المدرسة جلست سوسن في كرسيها وتباطأ كلامها وفقدت الكثير من حيويتها ورددت: (المدرسة مملة)، مؤكدة أنها ستكون لاعبة تنس محترفة، وبالتالي ما حاجتها لدراسة “التاريخ” وغيره.
وعندما استدعيت والد سوسن إلى المكتب، أخبرته أنني لا أظنها تعاني من (مشكلة انتباه) وأن هذه سمات في الشخصية. فهي نوع من الأطفال المحب للحركة والإثارة، وهذا ما يفسر حبها للرياضة وعدم استقرارها في الفصل. وشرحت له أن شخصية سوسن، والتي كانت جزءاً منها عند ولادتها، تفسر الكثير مما لم يفهمه من سلوكها. وسألته من في عائلتك أو عائلة زوجتك مثل سوسن؟) أجابني، (جدتها لأمها). وعقَّب بأنه لم يعط أهمية لهذه المقارنة، ولكن أعتقد أنهما متشابهتان لدرجة التطابق، وهذا سيساعدني على فهم سوسن بشكل أفضل إذا فهمت حماتي جيداً.
لقد كان على حق، فرغم أن كل إنسان خلقه الله متفرداً ومختلفاً عن الآخرين، إلا أن هناك أنماطاً من السمات تعطينا إطاراً مرجعياً لفهم الناس بشكل أفضل. ومن خلال معرفة وفهم هذه الأنماط سنفهم أطفالنا جيداً وسنتفهم شخصياتهم.
تخيل معي هذا المشهد:
فى الوقت الحر بفناء المدرسة، وقد اقترح المدرسون العديد من الأنشطة التي بإمكان الأطفال الاختيار منها، مع كفالة حريتهم لفعل ما يحبون طوال نصف ساعة. ماذا سيختار ابنك في هذا الموقف؟ رغم أنك قد لا تعلم ماذا سيفعل بالتحديد، حاول أن تتوقع نوع النشاط الذي سينتقيه بشكل عام. وتأمل معي ما قد يحدث من الأطفال في هذه النصف ساعة ونوعية اختياراتهم.
المنظم
من أوائل الأطفال الذين نلتقيهم ولاتخطئهم العين، أحمد، ذلك الذي يقف وسط مجموعة كبيرة من الأطفال محاولاً بداية مباراة في كرة القدم.
يقول المدرسون أن هذه اللعبة كانت ضمن مقترحاتهم، وأحمد على وشك القيام بالمهمة، ويمكنك سماع صوته أعلى من ثرثرة الأطفال، وفي الحال يقوم مع صديق له باختيار جهتي الملعب. وبينما يقومان بذلك، فإن العديد من الأطفال ينتظرون في هدوء قرارات (القادة الأطفال) وتكوين الفريقين.
والشخصية الأنثوية المقابلة لأحمد هي رانيا. فهي هناك مع مجموعة من الفتيات ينظمن لعبة الحجلة، وهي من الألعاب التي اقترحها المدرسون. وقد اختارت رانيا مجموعة من البنات الهادئات للذهاب وإحضار الطباشير ليبدأن رسم المربعات. وسريعاً قامت رانيا بتنظيم كل شيء واصطفت الفتيات لبداية اللعب.
كل من أحمد ورانيا طفلان منفتحان، فهما يتحدثان بسرعة وغالباً ما يفكران مثلما يتحدثان، وحاستهما النظامية وقدرتهما على الترتيب تصنع منهما مديرين صغيرين، فقد تلقى كل منهما تعليمات المدرس ونظم مجموعة أطفال لتحويل الفكرة إلى عمل. ولم يقوما باللعب لمجرد أن المدرس اقترح ذلك، ولكن لأن هذه الفكرة مثلت لهما شيئاً يريدانه، وقد أهلتهما شخصيتاهما للتمتع بمهمة تنظيم المجموعة كي يبدأ اللعب.
المراقب
يشبه حسن وهند كلاً من أحمد ورانيا، إلا أنهما هادئان أكثر وأقل انفتاحاً على الخارج. فهما يريدان اللعب وربما يستطيعان القيام بالإدارة أيضاً، ولكن فكرة التنظيم تصلهما متأخرة قليلاً. وهما يبدوان أقل إحاطة بما يدور حولهما، حيث أنهما مشغولان أكثر بعالمهما الخاص، ولكنهما (يراقبان) دائماً البيئة المحيطة. وبينما ينهمك أحمد ورانيا في حماس لتوجيه باقي الأطفال وتنظيم اللعب، ينضم حسن وهند لاثنين أو ثلاثة من الأصدقاء يتحدثان وينتظران في صبر، ورغم امتلاكهما لشعور داخلي بالتماسك وحبهما لانطلاقة اللعب، إلا أن تلك السمات لن تظهر لديهما إلا فى حالة غياب أحمد ورانيا عن المشهد.
ففي تلك الحالة سيكتشف أي منهما أثناء وقوفه متحدثاً مع أصدقائه، أن لا شيء يحدث هناك لعدم وجود من يقود عملية تنظيم اللعب. عندئذ فقط سيأخذ المبادرة بالتنظيم. أي أن (حسن وهند) نسختان هادئتان من أحمد ورانيا. وبدل (المراقب) قد نطلق عليهما (المتعاون) فهما يتعاونان مع المدرس ومع باقي التلاميذ ويمكن أن يصيبهما الإحباط من الرفاق الأقل تعاوناً منهما وخاصة تجاه المدرسين ورموز السلطة. وبينما ينظم أحمد ورانيا اللعب لأن هناك عملاً يجب إنجازه وهما يريدان اللعب، فإن حسن وهند قد ينظمان العمل من منطلق الإحساس بالواجب لأن المدرس طلب هذا وليس هناك من يستطيع إتمام العمل.
الصديق
أثناء سير مباراة الكرة ولعبة الحجلة، نلاحظ وجود نادين في ركن من الفناء أو جالسة إلى إحدى الطاولات تتحدث مع مجموعة فتيات، ويبدو أن أعضاء هذه المجموعة دائماً سوياً وهم يحبون الحديث فيما بينهم، ولكنك إذا اقتربت منهم واستمعت ستلاحظ أنهم يقاطعون بعضهم أثناء الحديث ولا يهتم أحدهم بالتوقف. وستلاحظ أن مواضيع المناقشة موزعة هنا وهناك، وأن كل ما يمتعهم هو الجلوس سوياً والانطلاق في الحديث، وقد تلاحظ انسحاب فتاتين من هذه المجموعة بعد عجزهما عن متابعة الثرثرة وفهم ما يقوله الجمع.
وقد تنضم نادين وصديقاتها إلى اللعب أحياناً، ولكن حتى في هذا الوقت يركزن على مجموعتهن وأحاديثهن التي لا تنتهي والتي ستجعل نصف الساعة تمر كأنها مجرد دقائق لأنهن اندمجن في أحاديثهن سوياً ونسين الوقت.
محسن يشبه نادين كثيراً، ولكن لأنه ولد، فإن صداقاته تتمحور حول مهمة. فربما يلعب الكرة مع فريق أحمد، ولكن بعد أن يتأكد من وجود معظم أصدقائه في نفس الفريق. فهم دائمو الثرثرة سوياً أثناء المباراة، وعندما يجلسون على كراسي الاحتياط يبدون كأنهم في حفل، وربما يكون على أحمد أن يقاطع محسن ليخبره أن دوره في اللعب قد حل.
ومن الأشياء اللطيفة، أنك ستلاحظ ميول محسن التجارية، وأن لديه مايريد بيعه مثل البطاقات والكرات، فهو تاجر بالسليقة حتى في أرض الملعب.
ولدى كل من محسن ونادين فضول عن عالم الأفكار والتعرف إلى الناس وهما متحمسان للحياة ومثاليان في شأن الصداقة.
أخصائى الأمراض النفسية والعصبية بمستشفى آل سليمان وشركة كهرباء مصر
طبيب جمعية ومركز التأهيل الشامل للمعاقين بمحافظة بورسعيد
مستشار إعاقات الطفولة لجمعية نور الرحمن
صاحب مدونة ( إطلالة على التوحد ),
كاتب ومؤلف بمجلة وكتاب المنال الصادر عن مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية
كاتب بمجلة أكاديمية التربية الخاصة السعودية