تنبع أهمية الثقافة من كونها مرشداً للجماعات الإنسانية في تلمس طريق المستقبل عبر تشريح الماضي وفهم الحاضر واستيعابه، وهي بهذا تؤدي وظيفة عضوية في المجتمعات البشرية وليس مجرد وظيفة ثانوية متممة، وقد وعت المجتمعات المتقدمة هذه الحقيقة وتبنت برامج عمل للنهوض بالثقافة ورعاية المثقفين.
وإذا كانت الثقافة بجوهرها إنسانية الطابع شمولية التوجه وتعبيراً عن الحياة بكل أوجهها، كان لا بد لها التعبير عن شرائح المجتمع كافة بما فيهم فئة الأشخاص من ذوي الإعاقة الذين حصلوا على حقوقهم الإنسانية في بلد كدولة الإمارات العربية المتحدة تحكمه قواعد الإنسانية والأخلاق الطيبة.. لذا لم يقتصر تمكينهم اجتماعياً على الخدمات العلاجية والتعليمية وتأمين فرص العمل ورعاية النشاطات الرياضية والاجتماعية، لكنه شمل أيضاً ما يمكن تسميته بالبنية الفوقية في هرم الرعاية ألا وهو الثقافة، ولكن ترتيب الثقافة في قمة هرم الاحتياجات لا يعني أنها غير أساسية ويمكن الاستغناء عنها فالقمة هنا أشبه بواسطة العقد الذي تكون وسطى أحجاره الكريمة أكبرها حجماً، وعليه جاء الاهتمام بثقافة الأشخاص من ذوي الإعاقة ضمن سياق عام يرعى الثقافة ويهتم بهم.
والحديث عن وظيفة الثقافة يستدعي بالضرورة الحديث عن مهمة المثقفين من الأشخاص المعاقين وهي بتقديرنا لا تختلف عن مهمة المثقف من حيث أهمية دوره كموجه للرأي العام يحرره من الأوهام، ويتكامل بجهده مع الآخرين لبناء المؤسسات الثقافية القادرة على الاستجابة للتحديات المطروحة.
إن مدى علاقة الأشخاص من ذوي الإعاقة بالثقافة سؤال متجدد يؤرق المثقفين والمهتمين في زمن تحولت فيه الإجابة عن هذا السؤال إلى مهمة أشبه بالدفاع عن متهم بل حتى عن مجرم، فكثيرون يشككون بجدوى الأموال المنفقة، وهل من الأجدى صرفها على أمور أخرى سيما في مجتمعات لم تستكمل بعد أساسياتها المعاشية وبناها التحتية.
والمشكلة في توهم كثيرين أن الثقافة معنية بتقديم الأجوبة، بينما تتركز مهمتها أصلاً في طرح التساؤلات، وهي مهمة عسيرة في زمن صعبت فيه القضايا وتعقدت وتشعبت، وصدق من قال إن معرفة السؤال الصحيح تشكل نصف الطريق إلى الجواب المطلوب.
لكن لايجب أن يقودنا الشعور بضآلة تأثير الثقافة في مجتمعاتنا إلى الإحساس بالعجز عن تغيير أي فعل في مجريات الأمور، ما يقود إلى الانغلاق والتقوقع في دوائر ضيقة والتحول إلى السلبية المحفوفة بتشاؤمية مبالغ فيها.
وإذا كان هذا حال الثقافة بمعناها العام، فما بالكم بحال ثقافة الأشخاص من ذوي الإعاقة الذين ما زالت حقوقهم الأساسية ناقصة في معظم البلدان العربية، أما حقوقهم الثقافية فحدث ولاحرج.
إن مهمة المثقفين من ذوي الإعاقة لا تختلف عن مهمة المثقف من حيث أهمية دوره كقائد للرأي العام يحرره من الأوهام، ويتكامل بجهده مع الآخرين لبناء المؤسسات الثقافية القادرة على الاستجابة للتحديات المطروحة، فالوظيفة الأساسية للثقافة ليست الخلق والإبداع، إنما وظيفة الضبط الاجتماعي.
هل يستحق لقب مثقف من يكون موضوعاً للتحولات أو متلقياً سالباً تشكله التحولات، من هو المثقف؟ وأين هو؟ ولماذا تأخذ الثقافة في وطننا العربي طابعاً استعراضياً! وفي أحسن أحوالها تكون سجالية، فيختلف مريدوها ويتفرقون بين مؤيد لقصيدة حداثية ومعارض لها، والنتيجة إهمال الأسئلة الوجودية الكبرى، وتغييب قضايا مهمة عن بساط البحث، فترى معظم مثقفينا جاهلين بأبسط تقنيات العلم، وإذا تصدى أحدهم للكتابة عن حقوق الإنسان نراه تصادمياً يسعى نحو أمور تحتاج أولاً إلى الارتقاء بالإنسان وتعريفه بواجباته قبل الحديث عن حقوقه، وطبعاً يغيب عن بال مثقفينا المناداة بحقوق فئة مهمة هي فئة الأشخاص من ذوي الإعاقة ربما لأن المناداة بها تفتقد إلى البريق الثوري الذي يضفي على متبنيه هالة تجذب إليه وسائل الإعلام فيعرف بالمدافع عن حقوق الإنسان، بينما إذا تصدى لقضايا الإعاقة يكون نصيبه التغييب في دروج مقالات رؤوساء ومديري التحرير وتبقى مخطوطاته حبيسة دروج مقفلة في دور الطباعة، إلا إذا تبنتها هيئة متخصصة تجد نفسها مرغمة على الاضطلاع بالوظيفة الثقافية إلى جانب مهامها الأساسية الأخرى من علاجية وتأهيلية وتوعوية، فتتفرق الجهود ويضيع الاختصاص.
يجب علينا وعلى الأشخاص من ذوي الإعاقة بداية الإجابة عن بعض الأسئلة المحورية قبل الخوض في هذا الميدان، فهل نطبق مفهوم الدمج على المجال الثقافي كباقي المجالات مع ما يستتبع ذلك من تحمل لتبعاته، فلا يعود من مجال لمعاملة خاصة، وتصبح معايير التقييم قاسية لا محاباة فيها ولا مجاملة. هذا القرار لا يمكن أن يتخذه سوى أصحاب الشأن أنفسهم، وهذه الأحكام وإن بدت قاسية إلا أن الثقافة لا مهادنة فيها.
إشكالية أخرى لا بد من التعرض لها قبل أن ننهي حديثنا وهي دور الجامعات في التصدي للقضايا الثقافية وفي ربط العلم بالعمل ومعرفة احتياجات المجتمع والتصدي لها بأسئلة البحث العلمي ومناهجه وأدواته، فأي معرفة لا تتحول إلى عمل هي معرفة منقوصة، وإذا لم تأخذ الجامعات دورها كمؤسسات بحثية في المجتمع فإن الدراسات اللازمة لفهم ما يحدث على الساحة ستبقى ناقصة وستبقى المعلومات متفرقة لا يجمعها جامع إلا محاولات فردية وفي أفضل حالاتها محاولات لمؤسسات غير متخصصة بالبحث العلمي ما يحد إمكانية الاعتماد على نتائجها.