بقلم الدكتور غسان شحرور
في الماضي، كنت أنظر إلى عربة المطار الكهربائية كوسيلة ممتعة للتجول داخل المطار، وكأنها امتياز يمنحني تجربة فريدة تميزني عن باقي المسافرين. كنت أشعر بسعادة غامرة إذا أتيحت لي الفرصة لركوبها، فهي لم تكن مجرد وسيلة نقل، بل كانت رمزاً للراحة والمتعة والسرعة في التنقل أثناء رحلة السفر، تماماً كما يشعر الطفل حين يجرب دراجته الجديدة أو عندما يجلس في مقعد الطائرة لأول مرة، مدهوشاً بعالم السفر.
أما اليوم، بعد مرور سنوات طويلة، تغيّرت نظرتي إليها تماماً؛ لم تعد تلك العربة تعني لي الرفاهية أو المتعة، أصبحت علامة واضحة على مرور الزمن، تأخذنا بين محطاته المختلفة.
اليوم، إذا عرض عليَّ سائق العربة الركوب، فإن ذلك يعني شيئًا آخر؛ يعني أنني لم أعد ذلك الشاب القوي الذي يجوب المطار بخفة ونشاط، بل أصبحت بحاجة إلى بعض المساعدة، إلى وسيلة تخفّف عني عناء التنقل. صرت أفرح، نعم أفرح، إذا لم يعرض عليَّ السائق المساعدة، لأن ذلك يعني أنه يراني قوياً قادراً على الاعتماد على نفسي، أما إن عرضها، فأدرك أنه يراني شخصاً مُسنَّاً ضعيفاً بحاجة إلى العون.
حقاً، هذه المشاعر ليست خاصة بي وحدي، فكثيرون يمرُّون بتجارب مشابهة، حيث يكتشفون أن الأشياء التي كانت ترفاً في الصغر تصبح ضرورة في الكبر. تماماً كما كنا نشاهد الكبار وهم يستعينون بالعكازات أو المقاعد المتحركة، ونظن أنها مجرد خيارات، حتى نجد أنفسنا مع تقدم العمر نفكر فيها بجدية.
إنها سيارة الحياة التي تقودنا جميعاً دون أن ندرك كيف تتغير سرعتها بنا. في البدايات، ننطلق بحيوية الشباب وقوة الجسد، نسير دون أن نشعر بالتعب، نصعد الدرج بسرعة، نحمل الأمتعة دون عناء، بل إننا نسعد بمساعدة الآخرين ونسعى إلى ذلك. لكن مع مرور الزمن، نبدأ بملاحظة التغيرات: نشعر بالتعب عند المشي لمسافات طويلة، نبحث عن المقاعد الفارغة في المحطات، ونفرح إذا وجدنا من يساعدنا في حمل الحقائب.
إنها سنَّة الحياة، ننتقل فيها من القوة إلى الضعف، من الاستقلال إلى الحاجة، ولكن يبقى الأهم أن نعيش كل مرحلة بوعي وتقدير لما كانت وما ستكون. وعلى الشباب أن يدركوا أنهم يوماً ما سيكونون في موقع من سبقهم، فعليهم أن ينظروا بعين الاحترام إلى من هم أكبر سنّاً، وأن يقدموا لهم العون، كما سيتمنون أن يحظوا به عندما يحين دورهم.
تُرى، كيف سننظر إلى هذه العربة بعد سنوات؟ وهل سنكون حينها مِمَّن يُقدِّمون العون، أم مِمَّن يحتاجون إليه؟ إنها ليست مجرد عربة مطار، بل درس عميق عن سيارة الحياة نفسها.
الأمس بعين اليوم، زاوية ثقافية دورية يكتبها د. غسان شحرور، طبيب وكاتب.