منذ قرون عدة رسم الغرب صورة ذهنية معنوية سيئة عن العرب محكومة بنمطية ثابتة، جامدة لا تاريخية ولا متبدلة كانت نتيجة أساسية من نتائج الحروب الصليبية وما رافقها من صراعات دموية زادت الحقد في النفوس أسهم في إبراز خطوطها علاقة الاحتكاك الدائم بين العرب والغرب من خلال السيطرة الاستعمارية الغربية حيث شهدت المنطقة العربية ثورات عدة ضد المستعمرين الغربيين أدت في مرحلة من المراحل إلى إجبارهم على حمل عصيهم على كواهلهم والرحيل عن هذه الأرض كاظمي الغيظ.
من هنا تأتي محاولة رسم تلك الصورة العنصرية المسيئة للإسلام والمسلمين والتي أثارت الكثير من الأسئلة في ذهن الفرد المسلم حين يرى وسائل الإعلام الغربية تصعد من هجومها عليه بوصفه إرهابي لديه من المعتقدات الفاسدة ما يؤدي إلى تهديد قيم الحضارة الغربية ومعتقداتها ومن ثم فإن القضاء عليه يمثل ضرورة من وجهة نظر الكثير من تلك الدول.
إلا أن التاريخ شاهد لا يكذب ومن شهاداته الحية تقول إن حضارة الغرب إنما نهضت وتقدمت بفضل علماء المسلمين وعلومهم في كافة الميادين والمجالات وهؤلاء العلماء هم الآباء الروحيون لتلك الحضارة في مجالات الطب والفلك والرياضة وعلوم المنطق والجمال ويأتي في مقدمة هؤلاء العلماء البارزين الفارابي وابن رشد والإمام أبو حامد الغزالي وابن سينا وغيرهم كثيرون لدرجة أن هناك الآلاف من الكتب العربية غيرت ملامح العالم في العديد من العلوم التي يصعب حصرها وتفنيدها في موسوعات.
الأمر المؤكد للمنصفين أن الحضارة الغربية لم تصل إلى ما وصلت إليه من تقدم وازدهار إلا بفضل الحضارة الإسلامية وعلومها في شتى الميادين، ولولا الإسلام وحضارته في العصور الوسطى لما نهض الغرب وكل ذلك كان بتسامح من العرب وسعى دؤوب منهم لنشر معارفهم في تلك البقاع المظلمة من العالم.
إن عملية التأثر والتأثير بين الحضارات والمجتمعات هي عملية واقعية لا مجال للتنكر لها أو التبرؤ منها فالفكر الإنساني بطبيعته المتراكمة وتركيبه المبدع يسير وفق التاريخ ومن خلاله لا رغماً عنه وفوقه. لقد كان اللقاء الأول بين الحضارة العربية والإسلامية والحضارة المسيحية على أرض بلاد الشام والعراق ومصر وقد أنتج هذا اللقاء علم الكلام وتم دمج العديد من العناصر الثقافية للبلدان المفتوحة حيث كانت المدارس اللاهوتية المسيحية منتشرة.
وبعد أربعة قرون كان لقاء ثان في مكان آخر وهو أوروبا وكانت الفلسفة هي أكبر نتاج هذا اللقاء وكانت طليطلة وصقلية أكبر بوابتين لدخول الفكر الفلسفي الإسلامي إلى البلاد الغربية ويؤكد علماء التاريخ في الغرب أن الحوار بين المسلمين والمسيحيين قد بدأ في القرن الثالث عشر بعد أن كان الجدل والمناظرة هو وسيلة المعرفة الوحيدة بينهما.
بدأ الغرب عصر الترجمات قبل ابن رشد وكانت الترجمات مختارة ومتخصصة وجاءت المرحلة الأولى منها في القرن الثاني عشر مشتملة على كتابات الكندي (في العقل) والفارابي (في العقل) والغزالي (مقاصد الفلاسفة) وابن سينا (مقتطفات من الشفاء).
وقد جاءت ترجمة كتب ابن رشد في القرن الثاني عشر والثالث عشر وكان ميخائيل سكوت أول مَن ترجم شروح ابن رشد على أرسطو وتركزت الترجمات اللاتينية حول شروح ابن رشد لأرسطو وهناك نقاش حول وصول مؤلفات ابن رشد التي أظهر فيها إبداعه وأصالته الخاصة: تهافت التهافت، الفصل، مناهج الأدلة. فلم تنحصر مؤلفات ابن رشد على شرح أرسطو وإن كان هذا الشرح في قمة الإبداع والعمق واستيفاء آراء وأخطاء الشراح الآخرين خاصة ابن سينا والفارابي.
ومن الغريب أن تبدأ حركة تطور الحضارة الغربية بعد ذلك في ثورة قادها أتباع ابن رشد في أوروبا والذين شكلوا تياراً فلسفياً قوياً أطلق عليه اسم الرشدية في القرون الوسطى بداية من القرن الثالث عشر وحتى السادس عشر وقد أطلق توماس الإكويني هذا الاسم عليهم في كتابه (وحدة العقل ضد الرشديين) وقد تركزت قوة الرشديين في كلية الفنون في جامعة باريس التي ازدهرت في القرن الثالث عشر واتجهت نحو الفلسفة والمنطق وقد جاء هذا الاسم ليكون بداية تطور العقل الغربي في تحويل الفكر الفلسفي والعقلاني إلى آلية واقعية بعد أن أحسن تتبع مواطن القوة في الفكر الإسلامي وأعاد توظيفها بما يتلاءم مع غاياته وأهدافه. وقد كان أثر هذا الفيلسوف الكبير في اللاهوت المسيحي من خلال القديس توما الإكويني. من هنا طرحت تلك العنصرية تساؤلاً هاماً حول رفض الآخر لثقافة من كان له الفضل في وجوده بل واتهامه بالإرهابية والتطاول على مقدساته.
هكذا كان الحوار الإسلامي والعربي مع الغرب طيلة أكثر من ستة قرون امتدت من القرن الثاني عشر الميلادي إلى القرن الثامن عشر وتحديداً منذ انطلاق الثورة الصناعية في انجلترا والتي مهدت لغزو استعماري بغيض عانى منه العرب والمسلمون الكثير من الويلات التي انتهكت فيه حرماته وضاعت في ظله خيراته ودنست مقدساته وأريقت على أرضه دماء أبنائه من أجل حريته واستقلاله ومن الغريب أن المنطقة التي انطلقت منها مشاعل الحضارة العربية والإسلامية إلى الغرب هي ذاتها التي عانت ولا تزال من الاستعمار ومن الإجحاف الغربي لوجودها ذاته.