يقابل التكيف.. عدم التكيف، أين نجد الأول، وأين نجد الثاني؟ الفنان يواجه مشكلة عدم التكيف مع من حوله أكثر من غيره وبشكل جاد، الشاعر يحس بهذا النوع من المشكلة، الأديب الذي يبحر في عالم التخيلات القريبة للهلوسة وربما تتقارب أكثر من الهذاءات.
هل يقودنا التكيف وعدم التكيف إلى عالم الذهان!! إنه حقاً تساؤل فيه أكثر من علامة استفهام؟ الفنان، الشاعر، الأديب، القاص، المفكر، الكاتب، يؤمن بأن حسه وقياسه للتكيف ليسا بمبعدة عن عوامل مضللة عدة بعضها فيما يحسه ويريد معرفته معرفة أقرب إلى ذاته هو كحاس ومتكيف نفسياً لما يختلج بين ثناياه، لذلك تتركز نرجسيته في قدرته على كشف هذا التضليل بصورة مستمرة ولقدرته أيضا على أن يكون جزءاً من عالم اللاتكيف دون أن يستمتع بما يجول في تفكيره خلال تلك الحقبة حينما يغوص في أعماقه لينتج فكراً أو قصيدة أو قصة أو رواية أو عملاً فنياً، يعيش تلك اللحظات الخاصة جداً في نفسيته الألم.. الخالد فيكون الإبداع، يقول علماء النفس إنها لم تكن لحظة ألم، أو هذاءات، وإنما لحظة تضحية لمجد يخطه فكره على الواقع!!
تعرف موسوعة علم النفس والتحليل النفسي التكيف بأنه خطوة أبعد من المواءمة على طريق التوافق سواء في المجال البيولوجي أو الاجتماعي أو النفسي، وهي تمثل تغييراً في البناء ـ أو السلوك ـ لمواجهة متطلبات البيئة الأمر الذي يستدعي تفرقته عن المواءمة والتوافق. وتختلف النظريات النفسية في معنى التكيف، فيرى التحليل النفسي بأنها قدرة الأنا على التوفيق بين الدفعات الغريزية الصادرة من الهو وبين العالم الخارجي، وبين الأنا الأعلى. وذلك عبر اختبار الواقع، وتضيف موسوعة علم النفس ايضا أن المدرسة السلوكية ترى في التكيف بأنه انطباع الكائن الحي للشروط التي يفرضها التعلم، مع استبعاد السلوك التمهيدي غير الضروري، وترى السلوكية أيضاً أن التكيف هو تلك المدة الكلية منذ بدء التعرف المنظم للمثير حتى تلك اللحظة التي تستقر بعدها الإستجابة دون تغير.
نحن نتكيف مع بيئتنا ـ مجتمعنا، مع من حولنا لكي نرضي أنفسنا، ويرضى عنا الاخرون، لكي نحس بالاطمئنان تجنباً لغضبهم، أو رفضهم لما نفكر فيه حتى يقودنا تفكيرنا إلى سلوكنا الظاهر، ونرى الاستجابات بين القبول والرفض، ففي حالة الرفض يلجأ البعض منا للجنون، والجنون أسلوب للهروب من الزيف الإجتماعي من الانحلال من القيود، من النفاق، عدم القدرة على مواجهة النميمة، دعونا نقول إنها انطلاق إلى الحرية بمعناها الأوسع ولو بشكل فردي، هذه الحرية لا يقبلها المجتمع، بل يقبلها من عمل بالطب النفسي والعمل النفسي المتخصص، فهي تحمي صاحبها من قسوة المجتمع والسلطة إذا كانت دكتاتورية، وفي الوقت نفسه تحميه حتى تتبلور أفكاره ويعبر عن رأيه الخاص بكل حرية وبلا خوف.
من المعروف أن الاضطراب الذهاني (العقلي ـ أو ما يطلق عليه الجنون) يتم تشخيصه طبياً نفسياً بعد التأكد من مظاهره، والطبيب النفسي لا يتسرع بالتشخيص إذا اختلف الفرد عن المجتمع أحياناً، ولكن السلطة الدكتاتورية الحاكمة تتهم الفرد بالمرض العقلي أو الجنون وربما يودع إحدى المستشفيات وتثار حوله الكثير من المبالغات أو التشهير لغرض تسقيطه.
دعونا نستأنس برأي عالم التحليل النفسي الشهير مصطفى زيور بقوله إن النفس هي هي سواء أكان ما يصدر عنها هذيان أم إبداع فني، وإنها هي هي في أعماقها، سواء أكان ما يشغلها أحلام الليل أم نشاط الحياة اليومية وأن ما يصدق عليها هو هو كان حاصل إنتاجها قصصاً خرافية وأساطير أو مسرحية تراجيدية أو فكاهة مثيرة للضحك، أنه لا يصح في الأذهان أن تكون صفات النفس هي هي في الصحة والمرض.
إن العلوم النفسية الحديثة والطب النفسي يقف من الإضطراب النفسي والعقلي موقفاً مخالفاً ومغايراً لما تحمله النظرة الإجتماعية أو التفسيرات النفسية ـ الإجتماعية عن هذه الظاهرة والتي يذهب البعض إلى المبالغة والتهويل عنها فضلا عما إذا أدخلت عليها تفسيرات باليه قديمة كتلبس الشيطان أو الجن أو ما إلى ذلك من تفسيرات بدأت تظهر في المجتمعات المتخلفة ومنها مجتمعاتنا العربية.. إن مرضى العقل يتصف تفكيرهم بالهذيان، أي بالتخبط بلا هدى وبلا ضابط أو معنى يهدفون إليه وكذلك بعض مرضى النفس في وساوسهم أو نوبات الهستيريا أو انتقالات الألم من النفس إلى الجسد كما هي الصورة النمطية للاضطرابات السيكوسوماتية ـ النفسجسمية – كل تلك تبين لنا الخبرة النفسية أن مرضى الهستيريا أو النفس جسمية إنما يعانون من ذكريات بعينها، وأن أعراضهم إنما هي تفريغ لخبرات انفعالية خلت، كذلك الحال في الهلوسة أو الهذيان في الأذهنة (الاضطرابات العقلية) هو الخلط بين العالم الداخلي والعالم الخارجي، وترمز إلى عدة معاني، وعلينا أن نصدق قول (د.مصطفى زيور) إن الهذيان والهلوسة ليست أموراً خالية من المعنى وإنما هي تفصح عن صراع إنفعالي بعينه، له تاريخه ومنطقه.
إذن، هل تستقيم الأمور في حالات التكيف النفسي حينما ينم عن ألوان من الصراع المكبوت الذي تدور رحاه بين الواقع المؤلم ونقيضه، ما تحمله إنسانية الإنسان؟ أوسياسة الدولة الهوجاء أو سلطة الجماعة التي لم تر في إنسانية الإنسان سوى أنه منقاد وعبد بلا تفكير مقابل سلطة السيد الحاكم؟ حتى بات الأمر أن المقابل النفسي لهذه الصورة هو أن المرء لا يشعر بالألم، لا يشعر باللذة، وأصبح الأمر في بلداننا ليست الحالة إنعدام الألم في حد ذاته ولكنها تشمل القدرة على تقبل الألم وأن الرغبة في إحلال اللذة محل الألم وما هو إلا وهم ومستحيل، فلذلك يحق لنا ان نقول أن الفرد ـ المواطن ـ الإنسان في أي بلد ما هو إلا المعبر الظاهري عن مرض قيادته وسلطة بلده وكثيراً ما يكون الشعب أكثر ذكاء وحساسية ورغبة في الخلاص والتطور والانطلاق نحو التحرر، ومعاناته بعدم التكيف البيئي والإجتماعي والنفسي ليست إلا دليلا على صدق رغبته هذه واحباطها ازاء تحجر القادة السياسيين أو تخلفهم، فالتكيف النفسي ليس عملية آلية تحدث بمعزل عما يدور في النفس وبلا إرادة واجتهاد ومخاطرة لابد من القبول بها، فكل اختيار هو تفضيل ومخاطرة قد تؤدي إلى خسارة وقد تحقق الفوز.. وهو التكيف الناجح.
العمل الاكاديمي:
- أستاذ جامعي في العراق ـ ليبيا ـ السويد ـ الدنمارك
- سيكولوجي في السويد
- العمل مع مركز الدراسات وسط السويد (اخصائي نفسي اجتماعي),
الشهادات العلمية:
- دكتوراه علم النفس والارشاد النفسي.
- ماجستير علم النفس والارشاد
- ليسانس علم النفس ـ كلية الآداب – جامعة عين شمس بالقاهرة ـ مصر
الكتب العلمية المتخصصة المنشورة:
- السلوك الجمعي
- سيكولوجية الشخصية
- علم نفس الشواذ
- سيكولوجية الفروق الفردية (علم النفس الفارقي),
- مشكلات نفسية ـ اجتماعية معاصرة (الدنمارك 2007),.
- العديد من المقالات العلمية المتخصصة في علم النفس والاجتماع. منشورة في المواقع الإلكترونية والصحف والمجلات العربية.