أخوة الشخص من ذوي التوحد
في 12 يوليو 2011 نشرت دراسة رائدة عن التغيرات المخية الممكن رصدها بالرنين المغناطيسي الوظيفي لدى إخوة الشخص من ذوي التوحد، وهذه الدراسة الهامة تأتي في سياق محاولات العلماء التوصل لمجموعة من الأدلة العملية المحسوسة والمحايدة على الفروق ـ إن وجدت ـ بين المخ لدى إخوة الشخص من ذوي التوحد وغيرهم، ومن ثم هل أحدهم عرضة لظهور أعراض التوحد أو بعض سماته في وقت قريب أو بعيد، وبالتالي التدخل المبكر للحيلولة دون ذلك، هذا عن الجانب العملي المفيد مباشرة للأسرة والمعالجين، أما عن الأثر الأعمق لمثل هذه الإكتشافات التشريحية والفسيولوجية فهو زيادة قدرتنا على فهم ما هو التوحد وأسبابه وفي المستقبل إكتشاف الطرق العلاجية والوقائية النهائية له.
فمن الثابت في علم الإحصاء الطبي أن إخوة الشخص من ذوي التوحد عرضة بعشرين ضعف ليكون من ذوي التوحد نسبة للأشخاص الآخرين، وهذا ما يؤكد على وجود إستعداد جيني لظهور التوحد، علاوة على التأثير الخفي لقدرات ذهنية مميزة للأشخاص من ذوي التوحد لاحظها العلماء بين آباء وأمهات هؤلاء الأشخاص وإخوتهم ممن ليسوا من ذوي التوحد مما يعد دليلا آخر على أن الإستعداد الجيني معقد وليس مباشراً وبسيطاً، ولهذا فليس شرطا أن تظهر كل أعراض التوحد على شخص ما، وفي ذات الوقت قد تظهر أعراض أو تغيرات بالمخ لدى من يحملون بعض ـ وليس كل ـ جينات الإستعداد للتوحد، وذلك طبقا لهذا التفسير لإضطراب التوحد، ولأن الرغبة العلمية ملحة لإيجاد دلائل ملموسة وممكن قياسها لأعراض التوحد فقد توجهت الدراسات لتصوير المخ أثناء عمله بتقنية الرنين المغناطيسي الوظيفي لدى ذوي التوحد وإخوتهم وآبائهم ومقارنة ذلك بالأشخاص من غير ذوي التوحد.
ويقوم البحث على أساس علمي يسمى Endophenotype وهو (السمات الوراثية المصاحبة لحالة مرضية معينة، والتي توجد لدى الشخص سواء ظهرت عليه أعراض المرض أم لا، والتي تميز المرض عن غيره، وقد وجدت بنسبة أكبر بين أفراد أسر المرضى عنها بين الأفراد العاديين). والجدير بالذكر أن هذا الأساس العلمي دخل إلى مجال الطب النفسي منذ سنوات قليلة وخاصة عند دراسة التوحد والفصام وثنائية القطبية، حيث أن هذه الإضطرابات الثلاثة ذات إستعداد جيني معقد وأعراض إكلينيكية متشعبة، ومن ثم لوحظ وجود بعض سماتها لدى غير المصابين.
الجديد في البحث الذي نعرضه اليوم أنه اعتمد على ظاهرة ضعف الإعتطاف (أي التعرف على مشاعر واتجاهات الآخرين إعتمادا على التعبيرات التي تظهر على وجوههم، وهي من أعراض التوحد، وكذلك ضعف القدرة على قراءة تعبيرات الوجوه، والجدير بالذكر أن مناطق المخ (اللوزة والجزء الأعلى من الفص الصدغي وكذلك منطقة قراءة الوجه الواقعة بين الفصين الصدغي والخلفي للمخ) المتخصصة في التعامل مع ميل الإنسان لقراءة وجوه الآخرين ومحاولة فهم ما تدل عليه تعبيراتهم، هذا المجال خضع لدراسات مفصلة في حالات التوحد بالإعتماد على تقنيات تخطيط الدماغ والتصوير بالمغناطيس للموجات الكهربية، وأصبح معلوماً أن هناك إختلافاً بين الشخص من ذوي التوحد وذاك غير التوحدي في صورة عمل المخ عند أداء هذه المهام في الحياة اليومية، ومن ثم أصبح مبشراً باكتشاف جديد في أن نبحث (هل سنجد سمات ينطبق عليها وصف Endophenotype لدى أفراد أسرهم إذا صورنا المخ لديهم بهذه التقنيات!).
لقد تكونت مجموعة البحث من 40 شخصاً توحدياً و40 من أفراد أسرهم و40 عينة ضابطة، والجميع بين 12 ـ 18 عاما، ودون تمييز على أساس الجنس (ذكر أم أنثى). وتم تعريضهم جميعاً لصور وجوه معبرة عن السعادة مقابل عدم التعبير عن أي مشاعر، وأخرى معبرة عن الخوف والغضب مقابل الوجوه المحايدة التعبيرات. وفي تلك الأثناء يتم تصوير المخ بالرنين المغناطيسي الوظيفي، ووجد أن تعبيرات الخوف والغضب لم تؤد إلى إختلاف بين أقارب الأشخاص من ذوي التوحد وغير التوحديين في نشاط مناطق المخ المختلفة، وقد يفسر ذلك على أن الإستجابة الصحيحة لتلك التعبيرات التي تدل على التعرض لخطر على الحياة تعتبر مهمة لإنقاذ الشخص، بينما وجد الباحثون ضالتهم المنشودة عندما اتسمت استجابة مناطق المخ بالضعف مع التعرض لصور الوجوه المعبرة عن السعادة لدى أقارب الأشخاص من ذوي التوحد، ومن ثم اعتبروا ذلك سمة عصبية حيوية قابلة للقياس المحايد للتعرف على أشخاص عرضة لكي يكونوا من ذوي التوحد وأيضا للتوصل إلى سبب التوحد الجيني والبيولوجي، بالإعتماد على مقارنة الصورة الجينية والسمات لدى الشخص التوحدي وأفراد أسرته.
وأنا شخصيا أظن بإمكانية الكشف المبكر على الأشخاص في سن مبكرة لإكتشاف الحالات قبل تفاقم الأعراض، وهذا إجابة على السؤال الملح من كل الأسر (متى نجد وسيلة محددة النتائج للكشف المبكر على حالات التوحد من خارج إطار الإستمارات التي تعتمد على المقابلة مع الأسرة والطفل والمربين).
وفي الأول من سبتمبر 2011 نشرت مجلة طب الأطفال الأمريكية دراسة كبيرة أجريت في 12 جامعة حول العالم في ذات الوقت، واستغرقت 3 سنوات، بغرض معرفة النسبة الحقيقية لقدوم طفل آخر من ذوي التوحد لأسرة لديها طفل سابق من الأشخاص ذوي التوحد، وكان الدافع لهذا البحث الأكبر من نوعه تلافي العيوب في البحوث السابقة وخاصة تلافي أثر قرار بعض الأسر بالتوقف عن الإنجاب بعد معرفتهم بأن طفلهم الأول من ذوي التوحد، وأن العينات السابقة اعتمدت على الإختيار من المجموعات الأكثر عرضة أو الناس من غير ذوي التوحد.
فمن المعلومات الإحصائية الثابتة أن نسبة حالات التوحد وصلت في أمريكا إلى 1 لكل 110 مواليد، ولدى الذكور أربعة أضعافها لدى الإناث، وإحتمالية توارثها بين توأم تصل إلى ?90، وتفاوتت النسب المتداولة لخطر ولادة طفل جديد من ذوي التوحد في الأسرة بين 3 ـ ?10 اذا كان لديهم طفل توحدي من قبل.
وقد تكونت الدراسة من 664 طفلاً ولدوا لأسر لديها طفل من ذوي التوحد أو أكثر، ولم يسمح بضم طفل عمره تجاوز سنة وعندما بلغ الجميع 36 شهراً تم تقييمهم من قبل أطباء متخصصين فوجد أن ?18 منهم من ذوي التوحد، وزادت هذه النسبة إلى ?32 لدى من تضم أسرتهم أكثر من أخ سابق من ذوي التوحد، وكذلك كان إحتمال الإصابة أكبر فيما إذا كان الطفل الأول أنثى وهذه معلومة هامة لأن الخطر الوراثي يكون أكبر إذا كان في المجموعة الأقل إحتمالية وهم الإناث في حالات التوحد كما ذكرنا آنفا.
وبمقارنة هذه النتائج بما نعرفه من دراسات نلاحظ أن النسبة أعلى بكثير مما كان متصورا، وبالتالي سيغير هذا من خطط الإستشارات الوراثية وكذلك خطط الأسر في الإنجاب بعد تأكدهم من وجود طفل أول من الأشخاص ذوي التوحد.
References
Recurrence risk for autism spectrum disorders: a baby siblings research consortium study. Sally Ozonoff et al. Pediatrics, Sept.2011.
A novel functional brain imaging endophenotype of autism: the neural response to facial expression of emotion. Spencer MD et al. Transl Psychiatry, July 2011.
أخصائى الأمراض النفسية والعصبية بمستشفى آل سليمان وشركة كهرباء مصر
طبيب جمعية ومركز التأهيل الشامل للمعاقين بمحافظة بورسعيد
مستشار إعاقات الطفولة لجمعية نور الرحمن
صاحب مدونة ( إطلالة على التوحد ),
كاتب ومؤلف بمجلة وكتاب المنال الصادر عن مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية
كاتب بمجلة أكاديمية التربية الخاصة السعودية