المتتبع لواقع التربية الخاصة بشكل عام وتعليم الصم في وطننا العربي، يجد حالة من التخبط المستمر وعدم الاتزان منذ فترة طويلة.. نقاشات محتدمة بين المختصين والنتيجة تكاد أن تكون معدومة… غياب شبه كامل لأبحاث واقعية تجريدية خاصة ببيئتنا العربية… المشكلة كانت وما زالت منذ أن كنت طالباً على مقاعد الدراسة… وقد يرجع ذلك إلى أننا لم ننشغل ببناء قواعد صلبة رصينة لهذا الميدان وأن نعمل بمنظومة متوازنة متوازية مع التعليم العام، لأن الواقع كل (معلم ومعلمة) في فلك يسبح.. وما زلنا إلى هذة اللحظة ننتظر (سوبرمان التربية الخاصة) لينقذنا ويجتث هذا الواقع المرير.
لم ندرك أن الاختلاف هو أمر طبيعي بل هو ظاهرة تعليمية صحية تنطلق منه جميع المسارات العلمية في مجال التربية الخاصة، فتعدد التوجهات والطرق التدريسية ليس عيباً ولا عاراً إذا كانت مدعومة بدراسات واقعية وإلا تكون تخرصات اعتباطية أو أفكار تطبق بسطحية، يتحتم علينا أن نقول إن الحرب الضروس التي تمارس في ميدان تعليم الصم والذي أصبح ضحيتها مباشرة هم الصم أنفسهم لم تعد مقبولة الآن لأن المجتمعات التي حولنا تقدمت وما زلنا ندور في حلقة مفرغة، لقد آن الأوان كي ندرك النقاط التالية:
- العمل التكاملي هو أصل لابد من تواجده إذا أردنا فعلا أن نحرز تقدماً وتطوراً في ميدان تعليم الصم، فالمعلم، والأسرة، والأصم، والمترجم، أستاذ الجامعة، والمتخصصون في مجالات أخرى قد يحتاجها الميدان، يجب أن نعمل سوياً جنب إلى جنب بشكل تكاملي وليس فردياً للرقي بمستوى الخدمات التعليمة للصم وأن نصنع فارقا حقيقا.
- إدراك أن جميع الاستراتيجيات التدريسية المستخدمة في تعليم الصم القديم منها والحديث كالتواصل الكلي، وثنائي اللغة وثنائي الثقافة، Cued Speech / Language… إلخ. ما زالت إلى هذه اللحظة يتم استخدامها في الولايات المتحدة الامريكية وكل طريقة لها نتائجها المتميزة وقد يجمع بينها أحياناً لأن فائدة الطلاب في المقام الاول، وما زالوا حريصين على دراستها وتطويرها بشكل مستمر. لذلك يجب علينا أن ننشغل بإتقان تلك الطرق وإجادتها وتقيميها علميا بالأبحاث والدراسات بنظرة حيادية وليست تعصبية بدلا من تهميشها وإضعافها، فعدم إتقان المعلم لتلك الطرق لا يعني بالضرورة عدم جدواها فلابد أن تفهم جيدا ثم تطبق وبعد ذلك تقيم بشكل مستمر.
- زراعة القوقعة هو خيار إيجابي ومتاح لكل أصم لديه صمم كلي أو من لا يستطيع الاستفادة من المعينات السمعية، فالنتائج مبهرة متى ما زرعت في وقت مبكر وقدمت خدمات التدخل المبكر بشكل شامل ومباشر حتى يسير بشكل طبيعي والشواهد على ذلك كثيرة جدا جدا.
- لغة الإشارة لابد أن تدرس قواعدها وأن تدرس كما درست لغة الإشارة الامريكية وأن يكون لكل دولة إشارتها الخاصة، ولا مانع من وجود لغة إشارية عربية إضافية. لأن دراسة لغة الإشارة أمر أساسي وضروري فالوضع الراهن للغة الاشارة في الدول العربية محزن فهي تسير بشكل عشوائي أشبه ما يكون بالارتجالي، والدورات التي تقدم في هذا الجانب من الطبيعي أن تكون عديمة الآثر لانها لا تنطلق من قواعد أساسية متفق عليها. فلغة الإشارة التي تدرس في الجامعات هي مجموعة من الكلمات تحفظ إشارتها ويقدمها المعلم للأصم بطريقة عشوائية أشبه ما يكون بكلام العامل الأجنبي الذي يتعلم اللهجة السعودية عن طريق حفظ الكلمات التي يسمعها فقط، فكيف حال طلابنا الصم سيكون؟! إذا تم السماح لمعلم إتقان للغة أشبه ما يكون بالعامل الأجنبي. هذا ظلم بعينه فلن تؤتي الطرق التدريسية ثمارها إن لم تدرس لغة الإشارة ويتم اصدار رخص لمعلمين في اتقانها. الجدير بالذكر أن لغة الإشارة (التي درست قواعدها وأسست) وحدها فقط لا تكفي لتطوير القراءة والكتابة لأنها لغة تواصلية وليست وسيلة تدريسية ، فعند استخدام لغة الإشارة لابد من الاستعانة بإحدى الطرق على سبيل المثال: Cued Speech / Language، أو استراتيجية الصوت المرئي Visual Phonics، وتدريب الصم عليها لايصال صوت الكلمة والحرف وخاصة الأصوات الصامتة التي تؤثر بشكل مباشر في تطوير مستوى القراءة والكتابة لدى الطلاب الصم لأن عدداً كبيراً جداً من الدراسات أكدت أن مستوى القراءة والكتابة لدى الطلاب الصم (من يستخدم لغة الاشارة فقط) منخفض جدا مقارنة بزملائهم السامعين، فلعلك تتساءل وتقول هذا مستوى الطلبة الصم في تلك الدول المتقدمة ، ماذا نقول عن طلابنا إذن الذين حرموا من أشياء كثيرة جدا؟؟!
- خدمات التدخل المبكر للأطفال الصم الذين يستخدمون القوقعة والمعينات السمعية، أو الأطفال الصم الذين يستخدمون لغة الإشارةه، امر في غاية الاهمية بل إنها نقطة جوهرية ذهبية لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال لأنه في حال تعرضهم لبرامج تدخل مبكر سيحققون تطورا باهراً على المستوى اللغوي، والتعليمي والاجتماعي، ويصبح الصم في وطننا العربي أكثر ايجابية وعطاء وتميزا وجميع الدراسات تؤكد وتتفق على أهمية خدمات التدخل المبكر وفوائده المتعددة على الفرد والأسرة و المجتمع.
إذن، لا يوجد مفتاح سحري، أو شخصية (سوبرمانية) خارقة ستحل جميع القضايا والمشاكل المتعلقة بالصم. إن الإثراء المعرفي والعلمي والعملي وتبادل الخبرات بشكل تكاملي جماعي في ميدان تعليم الصم أصبح يشكل ضرورة قصوى للتطوير في هذا المجال والرقي بشكل عملي بمستوى خدمات التربية بشكل عام وتعليم الصم بشكل خاص.
وختاما كل ما ذكر أعلاه لابد أن يعزز ببرامج توعوية مجتمعية ليست تقليدية حتى يتحقق التكامل المنشود الذي نتطلع إليه دائماً بغد مشرق ومتميز لخدمات الإعاقة في الوطن العربي بإذن الله.