من أهم القضايا الساخنة المطروحة على الأجندة الإدارية في العديد من دول العالم، قضية التخصص والتخصيص، قضية شائكة جدلية متعددة الأضلاع متفاوتة المعايير حسب المستجدات والمتغيرات.
لا شك أن عاملاً طردياً يربط تسارع الزمان بتفاضلية التخصص الدقيق الذي يتبحّر في تفاصيل لا تنتهي مادامت الحياة. هذا عن التخصص.. لكن ماذا عن أصحابه؟!
الاتجاه العالمي في اكتشاف قدرات ومواهب وميول الأجيال الناشئة في توسّعٍ مضطرد، بالإضافة إلى توفيره الوقت والجهد والمال، فهو اتجاه المتفوقين في كل أنحاء المعمورة وبه يحققون أفضل النتائج بأسرع وقتٍ وأقل تكلفة.
ماذا يختبئ في المساحة المفتوحة بين التخصص العلمي أو المهني المحدد، والتخصيص المُصمم مسبقاً على مقاس المهام الموكلة إلى صاحبه؟
الحكمة..
فالتخصص بدايةً وليدُ رغبةٍ ذاتيةٍ لها أسبابها ودوافعها المتشكّلة عبر فترة زمنيةٍ محددة، لذا فهو يحوي قناعةً متبادلة مع الذات تكفل استقراراً نفسياً وعقلياً حاضناً لماهية التخصص وأبعاده ومتطلباته المختلفة، ومن هنا تبدأ رحلة النوعية التي تمرّ بمحطاتٍ عدة نوجزها في الآتي:
- تراكم الخبرة العلمية والعملية: في تخصصك الذي تحبه تنمو كل يوم، بفعل المؤثراتِ الخارجية أو تفاعل المكنونات الداخلية. ما يقودك إلى تطوّرٍ شاملٍ متنوّعٍ غير مرتبطٍ بسقف، في منظومة عطاءٍ مستمرة التدفق، فعلى المستوى النظري والبحثي هناك جديدٌ كل يوم وأنت تتابع مستجدات تخصصك بجدولة مدروسة لتتزامن مع تاريخ اليوم. أيضاً أنت تمارس تخصصك بشكلٍ عمليّ وتزداد براعة به كلما مرّ الوقت محولاً إياه إلى مهارةٍ لا واعية تظهر بسلاسة وتؤدي بإتقان مع أقل جهدٍ مبذول. أما التخصيص فهو تعليبٍ للحد الأدنى من المقوّمات المهنية والوظيفية التي تعمل على إنجازٍ المهام المطلوبة بأداءٍ شاحبٍ مقولبٍ شديد المحدودية.
- نوعية المُخرجات: لا يقبل المختصون من أنفسهم مخرجاتٍ متدنية النوعية، فهذا يهددهم ذاتياً قبل أي مؤشرِ خطرٍ آخر، هم في رحلة ارتقاءٍ لا تنتهي بالجودة والكفاءة والخضوع لأقسى الاختبارات والمعايير التي غالباً ما تكللهم بالأوسمة وشهادات التقدير. ولا تخفى علينا الحروب الناعمة بين كبريات الأسماء العالمية في عالم الاقتصاد واعتمادها على معايير عالمية متجددة في الجودة والنوعية ما يشعل حرباً أكثر وضوحاً على المواهب البشرية المتخصصة المبدعة التي تضمن الحفاظ على معدلات الجودة بل والارتقاء بها قدماً. بينما الأولوية في التخصيص لإنجاز المخرجات بلا تأخيرٍ مع فتح باب التنازلات بنسبةٍ متفاوتة بما يخص جودة المخرجات وخواصها وتصنيفها ضمن قوائم المنافسة.
- هامش الإبداع والابتكار: لهذا الهامش فضلٌ على أممٍ بأسرها، وحضاراتٍ برمتها، وهو نتاجٍ أصيل لفكرٍ منظّم مدروس وتفاعلٌ مع مدارس التفكير المختلفة وتبحّرٌ في غياهب العقل البشري وممارسة مستمرة للتأمل وتخصيب المخيّلة.
الإبداع ابنٌ شرعي للتركيز، الذي تربطه بالتخصص علاقة أزلية. فالتشتت عدوٌ شرس للجنس البشري، يفترسه بنتائج أفقية تمتد لسنواتٍ طويلة من العمر إن لم تحصدها جميعها.
التخصص هو ترتيبٌ للملفات الإبداعية الخاصة بالدماغ، وتنسيقٌ للأفكار والمعلومات وتصنيفٌ للثوابت والمتغيرات، كل هذا في منظومة معقدة تقود الإبداع لاجتراح المعجزات وكسر كبرياء المستحيلات.
التخصيص صديقٌ للتشتت، الذي يفرز ذهنيةً متقلبة متحوّلة سريعة العدوى بفيروسات الكآبة والإحباط واليأس. ولم لا؟ فهامش الإبداع لم يفتح بابه يوماً لفاقدي الهوية الفكرية من أصحاب الامتدادات الأفقية الزاحفة بكل الاتجاهات بلا جدوى.
كما لا نستطيع الالتفاف حول حقيقة ساخنة، وهي أن غير ذوي الاختصاص معرّضون في أي وقتٍ لارتكابِ أخطاءٍ متفاوتة القيمة، والحقائق تخبرنا عن مؤسساتٍ أدمت أصابع الندم بسبب هفواتٍ قاتلة كبّدتها خسائر باهظة كان من الحكمة تداركها بالاستعانة بالمختصين من ذوي الخبرة والمهارة والتاريخ المشرّف.