بقلم الدكتور علي صابر محمد
أقرأ ايضا: تأملات طبيب نفسي في مسألة (السينما والإعاقة) – ج1
كيف تناولت السينما المصرية موضوع الإعاقة
نظراً لانتشار المواضيع الميلودرامية في تاريخ السينما المصرية وميل المؤلفين إلى الاقتباس والتمصير ثم إلى تقليد الموضة الشائعة، فإننا نرصد صورة البطلة المريضة في أكثر من فيلم، فهي مصابة بالدرن في (زينب) والقلب مع الدرن في (أيامنا الحلوة) إلى آخر القائمة، وكان ذلك يظهر البطل على أنه حنون وطيب فيحبه المشاهدون لأنه تعاطف مع البطلة المريضة.
ومن نفس المرحلة في السينما المصرية وجدنا (عماد حمدي مبتور الذراع مع شادية) و (كمال الشناوي مبتور الذراع مع هدى سلطان وهي تغني له عيش بالأمل).
ولكن الظاهرة التي تستحق الرصد عبر تاريخ السينما المصرية هي التعامل مع الإعاقة أحياناً على أنها حدث مؤقت وكحالة تغذي خيال المتفرج وتبث فيه أملاً كاذباً يستعذب طعمه. فإذا كان البطل دائماً قوياً ومنتصراً وغنياً وناجحاً، فإن الشخص ذا الإعاقة يشفى. وأمثلة ذلك (أحمد سالم) الذي تعرض لحادث فقد على إثره الذاكرة ثم تعرض لحادث آخر قرب النهاية أعاد إليه ذاكرته المفقودة، وكذلك حدث مع (ليلى مراد). أما أعلى تصعيد لهذه الصورة الخرافية فكان لدى (محمود المليجي) في فيلم (الإيمان) والذي كان يلعب فيه دور شرير فتاب وذهب إلى الحج ليعود سليماً معافى من الشلل النصفي. وهذا ما حدث (لحسين صدقي) في فيلم (رد قلبي) بعد قيام الثورة.
ملحوظة: قد نغفر كل هذا عندما يتعلل أهل الفن بالرمزية في أثر الإيمان ونهضة الأمة في الصحوة العامة (وليس شفاء الإعاقة بحد ذاتها) ولكن (صالح سليم) في فيلم (الشموع السوداء) ظل هو الآخر كفيفاً طوال ما يقارب الساعات الثلاث في واحد من أطول الأفلام المصرية، وفي النهاية وقع عن السلم فبرأت عيناه وارتد مبصراً. ولهذا لا أعتبر كل النماذج المشابهة في الأفلام المصرية (للإعاقة المؤقتة) ذات صلة أساساً بعرض قضايا الأشخاص ذوي الإعاقة في السينما.
وعلى فترات قدمت (سميرة أحمد) دور الصماء والكفيفة، وقدم (فاروق الفيشاوي) دور شخص من ذوي الإعاقة الذهنية في فيلم (ديك البرابر)، وقدم (يحيى الفخراني) نفس الدور في (مبروك وبلبل)، وقدمته (نبيلة عبيد) في فيلم ( توت توت)، ونلاحظ في النماذج السابقة تصويراً لاستغلال ولا إنسانية المحيطين بالشخص ذي الإعاقة، ورغم كآبة هذه الصورة، إلا أنها للأسف تجسد الواقع لدى بعض الناس، وهو ما صوره بصورة صارخة فيلم (الصرخة ) لنور الشريف، الذي عرض لمشكلة عدم أمانة بعض مترجمي لغة الإشارة للأشخاص الصم عند تعاملهم مع المجتمع وتواطؤ ضعاف النفوس منهم مع بعض أفراد المجتمع في استغلال الأشخاص الأصم.
أما عن المحاولات الرومانسية الهادئة فقد تزوج (صلاح ذو الفقار) من (مريم فخر الدين) التي مثلت دور فتاة ضعيفة السمع وتستعمل سماعة طبية، وذلك بعد اعتراض والدته، وهذا يعكس نظرة أفراد أو جماعات معينة ضمن المجتمع. أما نظرة الشخص ذي الإعاقة لنفسه فعرضها فيلم (نادية) لسعاد حسني التي أصيبت بتشوهات نتيجة حريق وبقيت تشعر بعدم أهليتها للزواج، إلا أن (أحمد مظهر) تزوجها لحبه الجارف لها، وكان التناول هل يواجه الشخص ذو الإعاقة المجتمع بإعاقته أم يخفيها وهل السمات الشخصية أهم من المظهر الخارجي.
وأعتبر فيلم (باب الحديد) ليوسف شاهين من أعمق الأفلام التي تناولت إشكالية محاولة الشخص ذي الإعاقة للخروج من واقعه بشكل لا تتيحه إمكانياته وقدراته. فقد حاول الزواج، ليس ممن تناسبه، ولكن من هند رستم، فكانت النهاية درامية جداً. وتلك رسالة قوية من الفيلم الذي ظهر في غير موعده.
هناك أفلام عن قصص واقعية مثل (قاهر الظلام) لمحمود ياسين عن حياة الدكتور طه حسين، وهو مثل الأفلام التي أنتجت عن حياة (هيلين كيلر) مثلاً، لأنها أفلام تتحدث عن الاستثناء الذي يثبت القاعدة. فالشخص ذو الإعاقة البطل والعبقري هو “فلتة” في كل زمان وأي مجتمع مثل (أبو العلاء المعري والبردوني وروزفلت وستيفن هوكنج) من الشرق والغرب.
الشخص ذو الإعاقة السوبرمان
اذا كنت امتدحت واقعية يوسف شاهين في (باب الحديد) وكيف أن نهاية أي إنسان – وليس الشخص ذي الإعاقة فقط – تكون أحيانا مأساوية إذا لم يضع في اعتباره قدراته وإمكانياته، فإنني على الصعيد الآخر أقف بقوة ضد الأفلام التي تصور الشخص ذي الإعاقة (كسوبرمان)، ومن الأمثلة غير السينمائية في هذا المجال مسرحية (وجهة نظر) لمحمد صبحي، والتي تتحدث عن كفيف عبقري بين زملائه في دار للمكفوفين. وعلى نفس الوتيرة كان فيلم (أمير الظلام) لعادل امام 2002 والذي يتشابه لدرجة التطابق مع فيلم (عطر امرأة) لآل باتشينو 1992، والذي يتطابق بدوره مع الفيلم الايطالي Profumo di donna, 1974 . ونحن هنا لا يعنينا الحديث عن السرقات (أو الاقتباسات) الفنية، ولكن الذي يعنينا هو أنها جميعاً عن ضابط فقد بصره بعد خدمة القوات المسلحة وهو لا يعترف بواقعه ويتسم بعصبية مفرطة وخروج على النظام وتقع في غرامه فتاة جميلة جداً يرقص معها التانجو ويقود طائرة أو سيارة فيراري (وهو كفيف)، ولا أجد تعليقاً على ذلك إلا أنه يذكرني بالأساطير الصينية القديمة التي كانت تتحدث عن المحاربين مكفوفي البصر وأسطورة الزناتي خليفة الذي كان حاكماً لتونس وكان حرسه الخاص من الجنود مكفوفي البصر. فنحن كأشخاص ذوي إعاقة وكمهتمين بشؤون الأشخاص ذوي الإعاقة لن ينفعنا- بل سيضرنا- من يصورنا ذوي قدرات خارقة، لأن الترجمة الواقعية لتلك الصورة ستكون انصراف كل متفرج لشأنه طالما أن الأشخاص ذوي الإعاقة يتمتعون بقدرات خارقة.
قد يتبادر إلى الذهن أنني أضم فيلم (الكيت كات) لمحمود عبد العزيز إلى هذه القائمة، دون أي تعسف ولا تحيز، أعلن إعجابي الكبير بالفيلم رغم أن المخرج جعل البطل الكفيف يقود (موتوسيكل) وليس طائرة أو فيراري، أي على قدر الحال.
فمن الجدير بالذكر أن الأفلام التي تتناول الإعاقات كموضوع (للأسى أو الضحك)، تخرج عن الإطار الذي يفهمه المجتمع لموضوع الإعاقة (الذي هو بطبيعته ليس مضحكاً وليس قاتلاً أيضاً) لذا، عندما يستعرض أي فيلم هذه الجوانب بشكل فني متميز، فإنه يصبح وسيلة توصيل مفيدة للأجيال فيما يخص الإعاقة. وهذا هو سر الاختلاف في فيلم ( الكيت كات ) الذي غاص داخل نفس الكفيف الذي تصرف بشكل لا أظنه يختلف عن أي مبصر في الحي الشعبي الذي يعيش فيه.
يتبع
أخصائى الأمراض النفسية والعصبية بمستشفى آل سليمان وشركة كهرباء مصر
طبيب جمعية ومركز التأهيل الشامل للمعاقين بمحافظة بورسعيد
مستشار إعاقات الطفولة لجمعية نور الرحمن
صاحب مدونة ( إطلالة على التوحد ),
كاتب ومؤلف بمجلة وكتاب المنال الصادر عن مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية
كاتب بمجلة أكاديمية التربية الخاصة السعودية