عملي مع لجنة التأهيل المبني على المجتمع المحلي (CBR) كثيراً ما كنت أواجه صوراً وأشكالاً مختلفة من الإهمال وسوء المعاملة التي يتعرض لها الأشخاص المعاقون، بعض صور الاهمال هذه تكون بسبب الجهل بأسس تأهيل وعلاج الأفراد المعاقين، فهناك الأم والتي بناء على نصيحة أحد الأشخاص تقوم بدهن ابنها بالزيت ووضعه تحت الشمس حتى يشفى من الشلل الدماغي الذي يعاني منه، ولم تسمع بالعلاج الطبيعي والتأهيل الطبي! وأيضاً الأم التي تطعم ابنها المعاق المصاب بصعوبة البلع ومضغ الطعام نوعاً واحداً ن الطعام (بسكويت مع الحليب) لمدة طويلة اعتقاداً منها أن الطفل لا يستطيع أن يأكل إلا هذا النوع من الطعام!… وتوجد عشرات القصص المشابهة التي يطول سردها.. إلا أن بعض هذه القصص تبقى راسخة في الذاكرة لغرابة أحداثها.
حسب الخطة الموضوعة والقاضية بتوسيع خدمات التأهيل المبني على المجتمع المحلي إلى القرى النائية أو البعيدة عن المدينة، ذهبت بصحبة أعضاء الفريق الآخرين إلى إحدى القرى والتي تعتبر بعيدة نسبياً عن المدينة، والخطوة الأولى التي نقوم بها في كل قرية جديدة ندخلها هي عمل إحصاء لعدد الأفراد المعاقين والتعرف على نوع الإعاقة التي يعانون منها من أجل عمل خطة عمل خاصة بكل فرد معاق، ويتم جمع هذه المعلومات من خلال عيادة القرية (إن وجدت)، وكذلك من مختار القرية، ومن ثم زيارة بيوت هؤلاء الأفراد وإجراء مقابلات مع عائلات الأشخاص المعاقين والتعرف على الشخص المعاق عن كثب.
دخلنا أحد البيوت وجلسنا مع والد أحد هؤلاء الأشخاص المعاقين، أخبرناه بطبيعة عملنا ونوع الخدمات التي يمكن تقديمها وأهمية هذه الخدمات، إلا أنني لاحظت التردد وعدم ارتياح الأب لهذه الزيارة إذ أخبرنا أن ابنه المعاق أصبح الآن شاباً ولا يوجد ما يمكن عمله لابنه المعاق!
وبعد إلحاح من قبلنا اصطحبنا الأب إلى مبنى إضافي ملحق بالبيت يبعد عنه أكثر ن عشرين متراً، فتح الأب الغرفة بمفتاح كان يحمله ي جيبه وصعدنا بضع درجات، وهناك أصبنا بصدمة شديدة بعد أن شاهدنا شاباً يأخذ وضعية جلوس غريبة تشبه الوضعية التي يأخذها الجنين داخل رحم أمه.. عار تماماً من الملابس والقاذورات تملأ الغرفة ورائحة كريهة تنبعث من أرجاء المكان..
وما أن شاهدنا هذا الشاب أو أحس بوجودنا حتى بدأ في الصراخ بصوت عال لا يخلو من نبرات الألم.. لم يكف الشاب عن الصراخ حتى طلب والده ذلك بصوت حازم.
خرجنا من المكان وعشرات الأسئلة تجول في خاطرنا حول هذا الشاب المسكين لماذا هو في هذه الحال!؟ لماذا وضعه والده في مثل هذا المكان وأغلق الباب عليه بالمفتاح! لماذا لا يرتدي الملابس!
عاد بنا الأب إلى الغرفة النظيفة والمرتبة التي كنا نجلس فيها عند حضورنا، وقبل أن نبدأ بطرح أسئلتنا بادر الأب بالحديث وقال: عندما كان ابني صغيراً عرضته على الأطباء الذين حضروا إلى القرية وجميعهم أفادوني بأن ولدي يعاني من إعاقة عقلية شديدة، ولكن المشكلة الأساسية لدي كانت هي مشكلة ارتداء الملابس فهو ومنذ أن كان عمره أشهراً فقط كان يرفض بإصرار ارتداء أي نوع من الملابس، وعندما كنا نجبره على ذلك يصاب جلده بالاحمرار وبحكة شديدة، يبدأ بعدها بنوبات غضب وصراخ تستمر إلى أن يقوم بتمزيق ملابسه..!!
ويضيف الأب: عرضت المشكلة على أحد الأطباء الذي قال لي إن الطفل مصاب بنوع نادر من التحسس (حسب هذا الوصف من المحتمل أن يكون لدي إحساس زائد في الجلد للمثيرات الخارجية أو قد تكون لديه مشكلة عصبية)..
ويقول الأب: كان من الممكن تحمل هذا الأمر عندما كان طفلاً صغيراً ولكن بعد أن بدأت علامات البلوغ بالظهور عليه أصبح من الصعب تحمل رؤية شاب عار من الملاس وخصوصاً عندما كان يهرب من البيت إلى الشارع.. وهكذا لم أجد حلاً آخر سوى وضعه في مكان مغلق لا يراه أحد وأقوم باطعامه كل يوم والاهتمام بنظافته الشخصية..
ويختم بحسرة: مشكلتي في الوقت ا لحالي هي: من يقوم بالاعتناء به بعد أن أرحل عن هذه الدنيا!!