شتان بين حياتي المهنية وحياتي الشخصية كاختصاصية اجتماعية
بقلم الاختصاصية الاجتماعية شما محمود الزرعوني
في زحمة الحياة وضغوط العمل، قد نغفل عن شيء أساسي: ألا وهو أنفسنا.
كاختصاصية اجتماعية، تعيش الحياة المهنية يوميَّاً بكل تفاصيلها، سعياً لتحقيق احتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة وأولياء أمورهم والعمل مع التحديات التي تواجههم والحفاظ على سلامة أنفسهم ومشاعرهم، ولا تنتهي أبدًا ملاحقتها لهذه التفاصيل. يبقى السؤال: كيف يمكنني أن أحتفظ بنفسي؟ كيف يمكنني أن أتنفس بعمق وأشحن طاقتي؟
أنا هنا لأقول: إن الطريق إلى التوازن يبدأ من لحظات وخطوات بسيطة، قد تكون خفية، لكنها كفيلة أن تعيدني إلى نفسي.
الالتزام بساعات العمل: حدود رقيقة بين العطاء والراحة..
أول خطوة في رحلة الفصل بين الحياة الشخصية والعمل تبدأ من رسم الحدود. ساعات العمل هي وقت العطاء، حيث أضع كل طاقتي في المكان المطلوب، أنجز ما عليَّ وأتأكد أنني قدمت أفضل ما أستطيع. لكن، بمجرد أن تنتهي الساعة الأخيرة، تتوقف الأفكار المهنية عن ملاحقتي. لا مكان للعمل خارج هذه الحدود، فلا أسمح له بأن يتسلل إلى زوايا حياتي الأخرى، ولا أن يعكر صفو لحظات استرخائي أو وقتي مع أسرتي.
وخلال ساعات العمل نفسها، لا بد من أن يكون هناك روتين يُنظم المهام. فكلما كانت البيئة منظمة، كلما قلت الفوضى التي تثير التوتر داخل نفسي، وكلما كنت أكثر قدرة على العطاء بجودة أعلى. التشتت يسرق الوقت والجهد، أما التركيز فهو أقوى سلاح ضد الضغوط.
العلاقات المهنية: من الدعم إلى التعاون..
في العمل، ليس هناك أجمل من أن تجد زملاء يمكنهم أن يمدوا لك يد العون، سواء كان ذلك بنصيحة أو دعم معنوي. العلاقات الجيدة ليست مجرد واجب، بل هي مصدر من مصادر الراحة النفسية. عندما أواجه تحدياً أو أحتاج إلى فكرة جديدة، أبحث عن مشورة زملائي، وأتعلم منهم. أحياناً، كلمة بسيطة منهم قد تغير كثيراً في كيفية التعامل مع ضغط العمل أو تحديد أولويات المهام.
الراحة بعد العمل: مساحة للاحتفاظ بالسلام الداخلي
لا شيء يعادل لحظة الراحة بعد يوم طويل. بعد أن أترك العمل خلفي، أخصص الوقت لراحة جسدي وعقلي. سواء كانت قيلولة قصيرة أو لحظة تأمل في هدوء، هذه الأوقات هي ما يعيدني إلى نفسي. إنني أستعيد طاقتي، وأسمح لذاتي بأن تشعر بالسلام الذي تستحقه بعد يوم حافل بالتحديات والإنجازات.
الجانب الروحي والديني: لأن الله هو السند
الاهتمام بالجوانب الروحية و الدينية هو سر من أسرار الراحة النفسية. عندما أشعر بأن كل شيء حولي يهتز، أتذكر أن هناك قوة أكبر تمنحني الطمأنينة. الصلوات، والدعاء، والتوكل على الله، هي لحظات تضع في داخلي هدوءاً عميقًا. عندما أستعين بالله في كل شيء، أشعر بأنني أتمتع بثبات داخلي، وأن الضغط الذي يحيط بي يصبح أقل وزناً ولا أحمل على كتفيّ ولو مثقال ذرة.
العائلة: أعمدة الحياة
بعد يوم طويل، لا شيء يعوضني عن لحظة مع أسرتي. في بيتي، بين أحبتي، أستعيد معاني الحياة الحقيقية. أوقاتنا المشتركة، سواء في الحديث أو في الصمت، تملأني بالراحة. إن هذا التواصل العميق مع أسرتي هو الذي يعيد لي توازني بعد تفاعلات العمل اليومية.
الرياضة: رحلة من الاسترخاء والتجديد
أما عندما يحتاج جسدي إلى الحركة، فإن الرياضة هي المكان الذي أذهب إليه. لا أحتاج إلى تمرين مكثف كي أستعيد طاقتي، فقط مشي هادئ في المساء أو ركوب دراجتي يجعلني أتنفس بعمق. في الهواء الطلق والنسيم يداعب وجهي، أشعر بأنني أتحرر من كل ضغوط اليوم، وأمنح نفسي فرصة لتجديد طاقتي.
التدوين: بين سطور الكلمات تتحرر المشاعر
أحيانًا، لا تكون الكلمات كافية للتعبير عن نفسي. هنا يأتي دور التدوين. الكتابة بالنسبة لي ليست مجرد تفريغ للأفكار، بل هي اتصال مع روحي. عندما أكتب، أرى يومي بوضوح أكبر، أدرك مشاعري، وأكتشف كيف يمكنني أن أتعامل مع تحدياتي. التدوين هو مساحة صادقة لاحتضان كل ما يجول في داخلي.
الأصدقاء: شموع دافئة تنير الطريق
وسط كل هذا، هناك الأصدقاء الذين يجعلون الحياة أجمل. ليس هناك شيء يضاهي ضحكة نقية مع الأصدقاء الذين يفهمونك دون أن تحتاج إلى شرح. معهم، أستطيع أن أكون على طبيعتي، بدون أقنعة أو تحفظات. أوقاتنا سوياً تعني لي الكثير، فهي أشبه بعلاج للروح، تمنحني الأمل وتجعلني أسترجع طاقتي.
الهوايات: لحظات تنقلك إلى عالمك الخاص
لا تنسَ أن تعيش لحظاتك الخاصة. تلك اللحظات التي تأخذك بعيدًا عن كل شيء، تلك اللحظات التي تجددك. يمكن أن تكون قراءة كتاب، أو رسم لوحة، أو أي شيء آخر تحب أن تفعله. الهوايات تمنحني شعوراً بالإنجاز، وتعيدني إلى نفسي بكل قوتها.
استشعار النعم: سر السلام الداخلي
وفي النهاية، مهما كانت الضغوط والمشاغل، أستشعر النعم من حولي: منزل دافئ، صحة جيدة، وأحباء بالقرب مني. هذه النعم هي ما يملأ حياتي بالسلام الداخلي. الحياة لا تأتي دائماً كما نريد، لكنها مليئة بالكثير من اللحظات التي تستحق أن نعيشها بكل تفاصيلها.
الحياة واتخاذ القرار
الحياة لا تتكرر، ولا يمكننا العيش بين أكوام العمل والأعباء. الحياة هي مزيج من العمل والراحة، من العلاقات والصمت، من الضغوط واللحظات الجميلة التي نصنعها بأنفسنا. أنت من يملك القوة لرسم حياتك كما تريد، فأبدع فيها، تمعن واستشعر لحظاتك الخاصة، وكن دائماً متصلاً مع روحك وصادقاً مع مشاعرك وحليماً على تعثراتك وأخطائك ودافئاً مع قلبك.
ختاماً أتمنى أن تصلكم مشاعري في هذه السطور القصيرة فهي محملة بمشاعر كبيرة…
إلى زملائي الاختصاصيين الاجتماعيين.. جهودكم لا تقدر بثمن ولكن أتمنى ألا يسلبكم العمل حياتكم وبشاشة وجوهكم وسلامة أرواحكم وأجسادكم، أتمنى أن تكونوا بخير دائماً وأبداً وأن تعتنوا بأنفسكم وتحرصوا على حب ذواتكم وأن تعيشوا كما تتمنون..