خطوات قليلة هاربة نحو حقل رأى فيه طفلٌ عصفوراً محلقاً أو حمامة تحاول اقتناص بضع حبات قمح أو شعير نثرها فلاح على أرض عربية زرعت بسموم اسمها (الألغام) تقترب كل يوم من ذلك الطفل وتتربص به، فإذا طارت الحمامة عالياً لحق بها الطفل ماداً يديه للأعلى منتشياً بمنظر الطير، متشبهاً به، وفجأة… تتناثر أشلاء وتثكل أم، وينضم عصفور جديد إلى طيور الجنة ويصبح حلم الطفل في الأرض حقيقة في السماء.
لكن، وعلى الأرض تكمن الحقيقة المرة، وتنوء الجبال بالأمانة التي حملها الإنسان المستخلف في الأرض ليعمرها، فإذا به وكما قالت الملائكة: (يسفك الدماء) ويتفنن في ذلك، فيخترع ألغاماً وثابة ضد الأفراد وأخرى للآليات، بعضها يعتمد المتفجرات وآخر المواد الكيماوية، وتتنوع مصائد الموت التي تستغل ضعف الأطفال وجهلهم، ذلك الضعف الذي ضاعفناه بعدم إدراكنا لمعنى هذه الحياة ودورنا في إعمار الأرض والإنسان، وهو التكليف الذي نثاب عليه، والذي يرتقي بجهود كل من يسهم في إزالة أو علاج آثار تلك الشرور إلى مرتبة الجهاد، وكل من كرس حياته لتلك القضية إلى مرتبة المرابط على الثغور.
إن أي جهد في هذا المجال لا بد أن تسانده عملية توعية تشترك فيها جميع وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية للتعريف بمخاطر الألغام ومخلفات الحروب، لا بل حتى أن تدرس مواد تدرج ضمن مناهج الجامعات وفروع الإعلام خصوصاً لتصبح القضية متجددة وجزءاً من وعي جماعي، يشكل ثقافةً إنسانية في منتهاها، وتسفر عن إيجاد تشريعات تعالج (وباء) الألغام، وتحدد سياسات وطنية متكاملة للتعامل مع الألغام والذخائر غير المنفجرة وإقرار وتنفيذ خطط استراتيجية لتحقيق التناغم بين مختلف الأنشطة التي تشمل عمليات المسح والتطهير، وتكثيف برامج التوعية وتصميمها لتتناسب مع مختلف شرائح المجتمع، ولترتقي بالتأهيل الطبي الذي يحصل عليه المصابون إلى مستويات أعلى من التدخل الجراحي وإعادة التأهيل الجسدي أي إلى التأهيل النفسي لإعادة التوازن إلى حيوات من فقدوا جمال حياتهم، وتعويضهم جزئياً بما هو حق لهم وتمكينهم من العودة لأعمالهم التي يعيشون منها، أو تأهيلهم لأعمال أخرى تتناسب وحياتهم الجديدة وظروفها وتعقيداتها، على أن لا تطال المساعدة أبناء المدن الكبيرة فقط، بل القرى والأرياف التي تتركز فيها الإصابات وتغفل عنها أعين الناس، ربما لبعدها عن بهرجة المدن وصخبها وضجيجها الإعلامي.