في جلساتنا اليومية المعتادة مع زملاء العمل، كثيرا ما يفتح باب النقاش على مصراعيه أمام حوارات متنوعة بعضها ثقافي وبعضها الآخر اجتماعي وغيره فني واقتصادي ولا ضير في شيء من السياسة، ضمن حدود المعقول والمقبول والمسموح به، ولكن حينما تصل بعض النقاشات إلى طريق مسدود وتعجز كل الطروحات عن الوصول بها إلى بر الأمان، يبقى لدى زميل لنا من الكتاب المخضرمين رأي آخر وتفسير لما لا يقبل التفسير، لاسيما في الأمور التي يكاد العقل البشري يعجز عن تفسيرها ضمن حدود المنطق وفي إطار العلم وبما يقبله العقل، كالحروب العبثية التي تجتاح المنطقة والصراعات الدامية التي تودي بحياة المئات والآلاف، بل ربما وصل العدد إلى ملايين، والدماء التي تسيل بغزارة في العراق وسوريا وغزة و ليبيا، فضلا عن الظهور المفاجئ لجماعات مسلحة سيطرت على الأرض في مناطق عديدة، في غفلة من الزمن دون سابق إنذار ومازال صانعها وداعمها مجهولاً.
كيف وصلت إلى هنا وهناك؟ هل سقطت كنيزك من السماء؟ أم شقت الأرض وخرجت؟ ثم ما راحت ترتكبه من فظائع عندما فجرت مساجد يذكر فيها اسم الله رغم كونها جماعات تدعي نصرة دين الله، فحولت جوامع النبي يونس والنبي شيت والنبي جرجيس ومنارة الجامع النوري الحدباء إلى ركام كادت تودي بكنيسة الروح القدس لولا ستر الله، لكن مرقد العلامة ابن الاثير وتمثال أبي تمام وسواهم من أعلام الموصل وكثير من المراقد والمعالم الحضارية لم تسلم من شرها. كما لم يسلم أهل البلاد الاصليون، المسيحيون من إرهابهم عندما أخرجوهم صفر اليدين من الموصل بعدما جردوهم من أموالهم المنقولة واستولوا على بيوتهم وعقاراتهم مخيرينهم بين ثلاثة أحلاهم مر: اعتناق الإسلام او دفع الجزية او مغادرة المدينة..
والذي زاد الأمور سوءا ما تعرض له اخواننا الايزيديون، وهم من العراقيين الأصلاء كذلك، وكحال المسيحيين هم قوم مسالمون لا يعتدون على أحد رغم ذلك تعرضوا لـما يزيد على السبعين حملة إبادة عبر التاريخ حسب النائبة العراقية الايزيدية (فيان دخيل) التي وجهت انتباه العالم إلى قضية شعبها عبر مناشدات عديدة، وهم يصطلون بنارين، داعش الارهابي من جهة، والحصار في الجبل والجوع والعطش من جهة أخرى، فضلاً عن الذبح والقتل والسبي والعياذ بالله.
في القرن الحادي والعشرين يقف العقل البشري حائراً أمام صور رحيل المسيحيين وحطام النبي يونس وقد تناثر كأشلاء شهيد، ومآسي المكون الايزيدي، وهل حقاً يبيعون النساء السبايا في سوق النخاسة؟ يقف العقل البشري ليسأل: كيف؟ من؟ لماذا؟ والأسئلة تترى ولا من مجيب إلا زميلنا العزيز، الذي كثيراً ما فسر ما لا يقبل لدينا التفسير، بجهلنا وأميتنا بتاريخ المنطقة وما حولها مؤكداً رأيه قائلا: أنتم لا تقرؤون التاريخ… حركة التاريخ تفسر لكم كل هذه الطلاسم… وعبثاً نحاول إقناعه أننا قرأنا و… ليتنا لم نقرأ!
ليتنا لم نقرأ عن القس ورقة بن نوفل أول من بشر بنبوءة الرسول محمد، ولا أن النجاشي ملك الحبشة المسيحي (النصراني) كان خير سند وحماية للمسلمين المهاجرين إلى دياره، ويوم مات نعاه جبريل إلى الرسول فصلى عليه وقال لأصحابه: اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم واستغفروا له فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه!
ليتنا لم نقرأ أن أهل الموصل المسيحيين فتحوا أبواب مدينتهم أمام المسلمين واستقبلوهم كإخوة محررين من بطش المحتل، والنون التي طبعوها على بيوت مسيحيي الموصل لأنهم، حسب تسميتهم، (نصارى) انما تذكرنا أننا قرأنا الآية التي تقول: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ). وأن السيدة الوحيدة التي حملت إحدى سور القرآن اسمها، هي السيدة مريم القديسة أم المسيح المكرم بالآية الكريمة (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً).
ليتنا لم نعرف أن أعذب الشعر الذي يعتبر ديوان العرب كتبه مسيحيون ليس أولهم حاتم الطائي ولا جبران آخرهم، ولا أن أمهر الأطباء وأحذق الصنّاع وكذا المترجمون والفلاسفة كانوا من هذه الملة خدموا الدولة العربية الاسلامية في عصورها الراشدية والأموية والعباسية وما تلاها… ولا قرأنا عن يوحنا بن ماسويه وحنين بن اسحق وجورجيوس بن بختيشوع النسطوري وكل من عمل على ترجمة علوم اليونان إلى العربية، لا قرأنا تالياً عن أدباء كـ (سليمان الصائغ، إنعام كه جه جي، سركون بولص، يوسف الصائغ، روفائيل بطي والأب يوسف سعيد)، ولا فنانين وموسيقيين من شاكلة (ماهر حربي، فرج عبو، حنا عواد، منير بشير، جميل بشير، سعيد شابو، رائد جورج، سيتا هاكوبيان، اسكندر زغبي، غانم حداد، صليوا يلدا صليوا (سيوا)، باكوري وعفيفة اسكندر) أو صحفيين يناظرون (توفيق السمعاني وفائق بطي، بولينا حسون ومريم نرمه) وعن آثاريين برصانة (فؤاد سفر، بهنام أبو الصوف، هرمز رسام، ود. دوني جورج) ولا عرفنا شيئاً عن الآباء الدومينيكان وريادتهم في الصحافة والطب والعلوم والتربية والتثقيف.
لقد سطعت في سماء الثقافة العراقية أسماء لامعة كثيرة من المسيحيين في كافة المجالات الإبداعية ويكاد لا يخلو مجال من اسم أحدهم، ولو أردنا إنصاف الجميع لما وسعت مجلدات كاملة تراث وإبداع وانجازات أمة من الأصلاء ذابوا كشمعة لينيروا دروب الوطن بالعلم والثقافة والفن والمعرفة وقبلها بالمحبة والسلام. واليوم يطردون من بلدهم وهم السكان الأصليون، على أيدي شذاذ الآفاق من الرعاع والسوقة والدهماء، لكنهم ليسوا هم الخاسرين الوحيدين فالوطن برحيلهم سيخسر الكثير وقادم الأيام سيحمل أكثر من دليل على ذلك.. اللهم اشهد أنني قد بلغت.
بعد كل هذا أيمكن أن تجيب من يسألك أن تقرأ التاريخ: لست بقارئ؟