شاءت قدرة الله أن تصاب بحادث مروري وهي في الرابعة عشر من عمرها نتج عنه إصابتها بإعاقة شلل رباعي أنهك قواها وقدراتها وشل حركتها لكنه لم يقعدها عن الحياة والوصول إلى مبتغاها.. صارعت قوى تفوق جسمها النحيل كانت تئن ويرجع صداها بين أضلاع صدرها وتكتم آهاتها لكن لم تُقيدها ولم تحد من طموحها.
أنهت المرحلة الثانوية وهي على كرسيها المتحرك بتقدير ممتاز لكنها للأسف واجهت واقعاً مراً من مسؤولي الجامعة بعدم قبولها وكاد هذا الموقف يئد أمانيها وأحلامها، وأذكر أنني كتبت في حينها (سنة 2004م) مقالاً بعنوان: (إيمان تجاوزت الظروف لتتحطم آمالها على أسوار الجامعة) ذكرت فيه لمعالي وزير التعليم العالي بأن إيمان تحطمت أمانيها على أسوار الجامعة وبالعزم والإصرار تم ولله الحمد قبولها وغيرت مفهوما اجتماعيا وأكاديميا في الجامعة حين التحقت بها بل وبعثت بإشارات لممتهني البيروقراطية بأن يلتفتوا إلى هذه الفئة ويعدلوا ويغيروا من أنظمتهم.
حصلت إيمان على شهادة البكالوريوس في التربية الخاصة بتقدير امتياز متفوقة على زميلاتها اللائي يتمتعن بقدرات حسية وحركية تفوقها ولكنهن لم يبلغن ما بلغته من قوة الإرادة والتحدي، ثم اتبعتها بمرحلة أخرى فهي لم تقف عند هذا الحد بل قدمت أوراقها للإعادة في القسم ولكن طلبها رفض بحجة عدم قدرتها الجسمية والحركية!! وقد تكون هناك جوانب وأسباب خفية في ذواتهم أو هي أنظمة بالية ترى من خلالها الجامعة عدم أحقيتها في الإعادة لتكون محاضرة وأستاذة مستقبلاً.
وقد قالت لي إيمان (رحمة الله عليها): (سوف أسعى بكل ما أوتيت أن أكون دكتورة في مجالي وسوف أثبت لهم جدارتي وقوتي وإصراري فهيلين كيلر أو ستيفن هاو كينغ وغيرهم من العلماء والنابهين كانوا معاقين إعاقات شديدة فتحدوا إعاقاتهم ووصلوا إلى أعلى المراتب العلمية والعملية، وسوف أعمل على أن أكون كما كان هؤلاء)..
لكن القدر لم يمهلها واختارها البارئ إلى جواره بعد أن عانت من توقف في القلب ورقدت في العناية المركزة ثلاثة أيام ودعت بعدها هذه الحياة مخلدة في السنوات التي عاشتها سيرة فتاة معاقة لم تعرف للمستحيل طريقاً ولم تستكن بل كانت قوية حاضرة بإرادتها الفولاذية.
إيمان لم تمت بل هي حية بين أهلها وناسها وأبناء حيّها وصديقاتها بل حتى في قلوب محبيها.. لم تمت ملكة الإرادة والقوة والتحدي.. لم تمت علامة من علامات بلادي.. لم تمت إيمان لأنها شتت أذهان المحبطين والبيروقراطيين الذين وقفوا أمام طموحها وجعلتهم يراجعون أنظمتهم.. هم سيكونون أكثر المتألمين إن بقي فيهم إنسانية لم تمت لكنها حية إن تذكروها.. لم تمت إيمان لأنها في أحاسيس ووجدان أساتذتها وزميلاتها في الجامعة لم تمت لأن قطرات من الدمع تودعها وألسنة بالدعاء رطبة وأيدي مرفوعة للسماء تطلب الله رحمتها.. لم تمت إيمان لأنها قالت ذات يوم لكل الأوفياء: (شكرا لكم ولكل من وقف معي وساندني) فقد بادلتهم العرفان وحسن الخلق ودماثته .. تلك هي حياة شابة شاء الله أن تكون معاقة لكنها كانت تملك قلباً طيباً وحباً للكثير ولم تحدق ولم تتأفف ذات يوم من حالها.. نظرات الآخرين المتأملة فيها لم تكن إلا داعما قويا لها وباعثا لمزيد من الأمل ولم تكن تلك حجرة عثر في طريقها بل تظن حسن النية بالآخرين..
إيمان كتبت عنكِ عام 2004م وأنتِ حية والآن وأنتِ ميتة تحت الثرى.. بالله عليكِ أياً من سطور الرثاء يفيكِ حقكِ، بل ماذا سوف ندون عنكِ وعن معاناتك أم عن آلامك أم عن الطموح والإرادة أم الحواجز التي عانيت منها في حياتك.. كل هذا لم يعد يهم إلا شيء واحد هو أنك (ملكة الإرادة) أضأت طريقاً كان معتماً عن الأشخاص من ذوي الإعاقة..
رحمك الله وأسكنك فسيح جناته وألهم ذويكِ وأهلك الصبر.