بقلم الدكتور غسان شحرور
قلَّمَا نجد في مجتمعاتنا برامج توعية وتدريب ورصد وتقييم للمحتوى الرقمي وكيفية صناعته خاصة أنه أصبح عنصراً أساسياً في حياتنا اليومية، إذ تشكل تطبيقات الحاسوب والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي أدوات رئيسة للحصول على المعلومات، والتواصل، ونشر المعرفة. ومع التوسع الهائل في انتشار العالم الرقمي، برزت تحديات تتعلق بجودة المحتوى وتنوعه ومدى دقته وموثوقيته، وبالتالي إمكانية الاعتماد عليه. إن الانتشار السريع للمعلومات، وتضخم المحتوى غير الدقيق، والأخبار المضللة، والمشوهة، وضعف الإنتاج المعرفي الهادف، جميعها عوامل تفرض علينا تعزيز دور الأفراد والمجتمع بشكل عام في إنتاج محتوى رقمي معرفي مسؤول وذي قيمة يمكن البناء عليه.
اقرا ايضا: تحديات مصيرية في صناعة المحتوى الرقمي العربي
إن تمكين الأفراد من استهلاك المحتوى بوعي، وإنتاجه بمسؤولية، ليس مجرد حاجة تقنية، بل هو ضرورة اجتماعية وتنموية تسهم في بناء بيئة رقمية أكثر إيجابية وإثراءً، وهي بدورها تدعم تحقيق التنمية المستدامة من خلال تعزيز التربية والتعليم، ونشر الوعي، ودعم الاقتصاد الرقمي القائم على المعرفة في إطار الاستراتيجية الموضوعة للتحول الرقمي المسؤول والدامج، إلى جانب ردم الفجوة الرقمية التي تعاني منها مجتمعاتنا في أكثر من مكان.
وعي الفرد كمستهلك للمحتوى الرقمي
يعد الوعي الرقمي الخطوة الأولى لتعزيز جودة المحتوى، حيث يجب على الأفراد أن يكونوا مستهلكين واعين قادرين على التمييز بين المعلومات الموثوقة والمضللة والفارغة، وعلى حماية خصوصيتهم في الفضاء الرقمي من خلال:
التحقق من صحة المعلومات
مع انتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات المغلوطة، المضللة في عالم الترف والاستهلاك يصبح التحقق من المصادر أمراً ضرورياً. على سبيل المثال، عند قراءة أخبار صحية أو سياسية، يمكن التأكد من صحتها عبر مواقع رسمية مثل مواقع منظمة الصحة العالمية والجامعات والجمعيات المعروفة أو وكالات الأخبار الموثوقة المتخصصة ذات السمعة والمكانة.
مثال عملي: خلال انتشار جائحة كوفيد-19، ساهمت بعض الحسابات غير الموثوقة في نشر معلومات خاطئة عن اللقاحات، مما أدى إلى إثارة القلق. لكن بفضل جهود الأفراد الواعين، تمت مشاركة المعلومات الصحيحة من مصادر طبية موثوقة، مما ساهم في الحد من تأثير تلك الشائعات.
اختيار المحتوى المفيد
يجب أن يكون الأفراد انتقائيين في المحتوى الذي يتابعونه، ويفضلون القنوات والمصادر التي تقدم معلومات تعليمية أو ثقافية على تلك التي تروّج لمحتوىً سطحي فارغ أو غير ذي قيمة.
مثال واقعي: بدلاً من قضاء الوقت في متابعة مقاطع فيديو غير مفيدة، يمكن للطلاب متابعة منصات مثل “TED” أو “كورسيرا” لاكتساب مهارات جديدة، مثل تعلم لغات أجنبية أو البرمجة وغيرها.
حماية الخصوصية الرقمية
تعد حماية المعلومات الشخصية أمراً بالغ الأهمية، إذ يجب على المستخدمين ضبط إعدادات الخصوصية، وتجنب مشاركة بياناتهم الحساسة على الإنترنت.
مثال عملي: قام أحد الأفراد بإزالة معلوماته الشخصية من حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي بعد تعرضه لحملة تحرش إلكتروني، مما ساعده في استعادة أمانه الرقمي وقام بنشر تجربته لتوعية الآخرين.
دور الفرد كمنتج للمحتوى الرقمي
لا يقتصر دور كل فرد على استهلاك المحتوى فقط، بل يمتد إلى إنتاجه والإسهام في إثراء المشهد الرقمي وصناعة محتوى هادف ومسؤول من خلال:
إنتاج محتوى مفيد ذي معنى
يمكن للأفراد مشاركة معارفهم وخبراتهم عبر المدونات أو إنشاء مقاطع فيديو تعليمية أو ثقافية تسهم في نشر الفائدة.
مثال عملي: بدأ أحد المعلمين بإنشاء قناة على يوتيوب لشرح المواد الدراسية بأسلوب مبسط، مما ساعد العديد من الطلاب، والجمهور بشكل عام في تحسين مستواهم التعليمي والتثقيفي.
احترام حقوق الآخرين
ينبغي على منتجي المحتوى احترام الملكية الفكرية وعدم سرقة أعمال الآخرين بشكل كامل أو جزئي، أو إعادة نشرها دون إذن.
مثال عملي: عند استخدام صور أو مقاطع فيديو في محتوى رقمي، يحرص بعض المبدعين على ذكر المصدر أو استخدام مواد مرخصة تحت رخصة المشاع الإبداعي (Creative Commons).
تشجيع المشاركة في النقاشات الرقمية بإيجابية وموضوعية حتى تعمّ الفائدة.
تشكل النقاشات الإلكترونية جزءاً كبيراً من التفاعل الرقمي، لذا يجب أن تكون مبنية على الاحترام المتبادل، وتبادل وجهات النظر بحرية واحترام، وبشكل حضاري.
مثال عملي: أثناء مناقشة قضية اجتماعية تتعلق بالمرأة والطفل على منصة ما، حرص بعض المستخدمين على تقديم آرائهم بأسلوب علمي وهادئ، مما أسهم في نقاش مثمر بدلاً من تبادل الاتهامات والتجريح والسخرية.
المسؤولية الاجتماعية في البيئة الرقمية
يتحمل الأفراد عند إعدادهم وتمكينهم مسؤولية تعزيز القيم الإيجابية في المجتمع الرقمي، وذلك من خلال التصدي للتنمر الإلكتروني، ونشر الوعي، وتعزيز الثقافة الرقمية.
محاربة التنمر الإلكتروني
التنمر عبر الإنترنت مشكلة تؤثر على العديد من الأشخاص، خاصة الأطفال والشباب، لذا يجب الإبلاغ عن المحتوى المسيء ودعم الضحايا.
مثال عملي: قامت إحدى المدارس بإطلاق حملة توعوية حول التنمر الإلكتروني، حيث شجعت الطلاب على التحدث عن تجاربهم والإبلاغ عن أي سلوك مسيء عبر الإنترنت.
تعليم الأجيال الجديدة التعامل مع المحتوى الرقمي وكيفية إنتاجه
يتطلب العصر الرقمي تربية الأطفال والشباب على الاستخدام المسؤول للإنترنت، وتوعيتهم بالمخاطر المحتملة.
مثال عملي: بعض الآباء يستخدمون تطبيقات الرقابة الأبوية لتوجيه أطفالهم نحو المحتوى المناسب، ويعقدون جلسات نقاشية حول كيفية تجنب الاحتيال الإلكتروني، والتوعية بالقوانين الوطنية التي تحمي أبناء المجتمع من المخالفات والاستغلال التي يتعرض لها البعض.
أيضاً يمكن القيام بذلك في المدارس والمراكز الدراسية والاجتماعية والرياضية وفي جمعيات المجتمع المدني.
تعزيز الثقافة الرقمية
يمكن للأفراد لعب دور في توعية المجتمع بالمسؤولية الرقمية، من خلال الحملات التثقيفية ونشر المحتوى الهادف.
مثال عملي: أطلقت مجموعة من النشطاء حملة على وسائل التواصل الاجتماعي بعنوان “تحقق قبل أن تشارك”، تهدف إلى مكافحة الأخبار الكاذبة والصفراء وتعزيز ثقافة التحقق من المصادر.
التحديات التي تواجه تعزيز المحتوى الرقمي
رغم أهمية تمكين الأفراد في البيئة الرقمية، إلا أن هناك تحديات تواجه هذه الجهود، مثل:
- انتشار المعلومات المضللة: صعوبة التحقق من صحة الأخبار في ظل الكم الهائل من المعلومات.
- التنمر الإلكتروني: تأثيره السلبي على الأفراد وصعوبة مكافحته في بعض الأحيان.
- الاحتكار الرقمي: تحكم بعض المنصات في نوعية المحتوى الذي يصل إلى المستخدمين.
- ضعف الوعي بالحقوق الرقمية، وضعف أو غياب المساءلة: عدم معرفة الكثيرين بحقوقهم وواجباتهم في الفضاء الإلكتروني.
نعم، تعكس البيئة الرقمية سلوكيات الأفراد ومدى وعيهم، وهي من منتجات استراتيجية التحول الرقمي في إطار رؤية الحكومات 2030، لذا فإن تمكين الأفراد من استهلاك المحتوى بوعي، وإنتاجه بمسؤولية، يسهم في خلق فضاء رقمي أكثر إيجابية وتأثيراً، ومن خلال تعزيز الثقافة الرقمية، ومواجهة التحديات، وتضافر الجهود الحكومية وشركات المعلومات والجمعيات المهنية ومنظمات المجتمع المدني والأفراد، في إطار استراتيجية وطنية يمكن أن يصبح المحتوى الرقمي قوة دافعة للتنمية والابتكار والإنتاج لاسيما مع القيام برصد دوري لهذا المحتوى .
لذا، من الضروري، في هذه العجالة، زيادة دمج التعليم الرقمي بكل جوانبه في المناهج الدراسية، وتشجيع الأفراد على التفاعل الواعي مع المحتوى، ليكونوا جزءاً من الحل في إطار استراتيجية وطنية ناظمة تشاركية لبناء بيئة رقمية أفضل تكون مسؤوليتنا جميعاً.