قال الله تعالى: {وبالوالدين إحسانا …}، للوالدين فضل كبير وعظيم على الإنسان، بحيث لا نستطيع تقدير حجم هذا الفضل الجاري كما النهر العذب الممتلىء حباً وحناناً، وماذا يقال في فضل الأبوين، وفضل من احتوى الطفل بين الأحشاء حملاً، وضمه بين ضلوعه ورواه منذ أبصر النور حباً وعطفاً وفرحاً حتى أن كل قطرة من ثدي أمه تزيده نماءً، وتخلق في ذاته وشخصيته معالم رجولته، ولا أنسى رعاية الأب ولهفته وسعيه ـ حتى خلف كل سراب ـ لخلق حياة هانئة لأبنائه، وإذا ما أدرك الابن هذا الفضل لوالديه صغيراً أو في شبابه سيدركه حين يكون أباً، وسيحاول قدر إمكانه أن يرد ولو جزءاً من الدين الذي عليه لوالديه بأن يبرهما، لكننا نلاحظ في زمننا هذا زمن الحياة المادية، وفي ظل الصخب المادي المتلاحق، والذي يغوص في دوامته معظم البشر، أن الأبناء ـ ومع سرعة عجلة الحياة ـ قد تغافلوا متعمدين أو ساهين عن نبع الحنان ونهر الحب، فهل ارتووا ولم يعودوا يتلهفون لرشفة منه؟
فإذا كان كلامنا السابق عن الإنسان عامة الذي وهبه الله نعمة الحواس وكمال العقل لإدراك معنى بر الوالدين، فماذا نقول عن الطفل ذي الإعاقة العقلية، ونتساءل هل يدرك بر الوالدين؟
أعتقد بوجود فروق فردية بين ذوي الإعاقات الذهنية حسب شدة ودرجة الحالة، لكن عموماً أغلبهم يشعرون بعطف كبير تجاه كل من يرعاهم ويحتويهم بدرجة عالية تفوق غيرهم، فما بالك حين تكون الرعاية من الوالدين، لا شك أنه سيشعر بذلك.
أذكر ذات مرة أن والد طفل من ذوي متلازمة داون لم يكن يفكر في مرض موته إلا بابنه وعلامات الاستفهام تعصر قلبه والتساؤلات عن مستقبل ابنه تضج في عقله، ولاحقاً بعد موت الأب رأيت طفله يذرف نفس الدموع، ويعيش حالة حزن على والده على الرغم من إبعاده قسراً طوال أيام العزاء التي ما انفك يردد فيها (أبوي مات ما يرجع)، فهل نعتبر هذا الشعور والحزن مرتبطاً ببر الوالدين؟ وهل يلام الشخص ذو الإعاقة حين يكون عاقاً بوالديه؟ أعتقد من وجهة نظر شخصية أنه لا يلام، كونه لا يعي بشكل كامل معنى بر الوالدين، وسيرحمه الله تعالى وسيوسع عليه مدخلاً حين يلاقيه.
ما جعلني أسوق هذا الموضوع هو تلك القبلة الرائعة الممتلئة حباً وحناناً من ذلك الشاب ذي الإعاقة العقلية (متلازمة داون) وهو يقبل رأس والدته، وأعتقد أنه يشعر بحبها وحنانها رغم عدم إدراكه معنى البر بعقله، لكن عاطفة مشتعلة في قلبه لم تطفئ جذوتها رياح الإعاقة، فبقيت نفسه الإنسانية التي فطره الله عليها صافية رقراقة عكس كثيرين ممن وهبهم الله قدرات عقلية ومعرفية كبيرة ومكانة علمية واجتماعية مرموقة لكنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم واستحالت قلوبهم كالحجارة بل هي أشد قسوة، والدليل على ذلك ـ وكما قالت العرب: من البعر تعرف البعير ـ ففي بلاد المسلمين؟ والله المستعان ـ تنتشر دور المسنين، ونحن الذين جعلنا الله خير أمة أرسلت للناس.
خلاصة القول أن الإعاقة لا تقف حائلاً أمام العاطفة لأن منبعها القلب، وهي وإن كانت غير كاملة في بنائها إلا أنها صادقة في محتواها، بل أقول أنها تكاد أن تكون أكمل من عاطفة عامة الناس.