كم هو مؤلم ومؤذ للنفس أن تتعرض لموقف ما يسلب فيه حقك وتهدر فيه كرامتك لا لخطأ ارتكبته ولا لذنب اقترفته سوى أنك معاق! وكم هو مؤلم أكثر ومؤذٍ أكثر أن تكتشف بعدها أن ما تعرضت له لم يكن ناجماً إلا عن جهل عميق بألف باء حقوق الإنسان عامة فما بالك بحقوق الإنسان المعاق!!
لقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان منذ أقل من سبعة عقود ـ ولا نقول المعاهدة الدولية لحقوق الأشخاص من ذوي الإعاقة ـ على أن الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم، ونص في مواده على أن لكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة ومن حق كل فرد أن يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده والعودة إليه.
وليس في هذا الإعلان أي نص يجوز تأويله على أنه يخول دولة أو جماعة أو فرد أي حق في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم هذه الحقوق والحريات الواردة فيه.
إن هذا الإعلان لم يوضع بالتأكيد للإنسان فقط في أحسن حالاته وإنما لضمان حقوقه في كل أحواله وأوضاعه.. فحري إذن بمن استساغ انتهاك حق إنسان معاق في السفر ـ على سبيل المثال ـ أن يتمعن أكثر في النظم والقواعد المتبعة ـ ليس على المستوى العالمي ـ وإنما على الأقل على مستوى المؤسسة أو شركة الطيران التي يعمل بها..
منذ سنوات حرم زميلنا وصديقنا السيد مختار الرواحي من حقه في السفر على الخطوط الجوية لإحدى شركات الطيران المعروفة، بحجة أنه لم يجر كشفاً طبياً.. وحتى بعد أن رضخ لمطالب الشركة وخضع للكشف الطبي اشترط القيمون عليها أن يكون معه مرافق!!
وقد اتضح بعدها أن ما حدث لم يكن يستند حتى إلى قوانين الشركة ذاتها التي سلبت زميلنا حقه في السفر لا لشيء إلا لأنه شخص معاق مستقل ومعتمد على ذاته.. وتبين أن الحالات التي يطلب من أصحابها الخضوع لكشف طبي من الجهات المختصة في الشركة الناقلة تشمل الفئات التالية:
- الذين يعانون من أمراض معدية.
- الذين بسبب مرض أو عجز ما يتسببون بسلوك غير طبيعي أو تصرفات حركية تؤثر سلباً على راحة الركاب الآخرين أو طاقم الطائرة.
- الذين يمثلون خطراً على أمن الطائرة خلال تحويل الطيران أو الهبوط غير المتوقع.
- الذين يحتاجون إلى متابعة طبية أو فريق طبي للإعتناء بصحتهم طوال الرحلة.
- الذين تسوء حالتهم (يغضبون أو يثورون) خلال الرحلة أو بسببها.
أما الذين لديهم إعاقات دائمة ـ وهنا بيت القصيد ـ كالأشخاص الذين لديهم شلل مثلاً فيستثنون من الكشف الطبي. (الفئات المذكورة مترجمة عن لوائح الشركة الناقلة).
إذن، لماذا هذا الجهل.. حتى بقوانين الشركة التي يعمل فيها مثل هؤلاء الموظفون.. وهل نستطيع أن نطالبهم بعدها بالتمييز بين المرض والإعاقة.. نحن من جهتنا لم نقف أبداً مكتوفي الأيدي ودأبنا على الترويج لثقافة صحيحة حول الإعاقة.. وكافحنا من أجل تثبيت مسميات ومصطلحات علمية سليمة تحفظ كرامة الإنسان عند تناولنا لكل إعاقة.. وكم مرة قلنا إن الإعاقة ليست مرضاً طارئاً.. وكم تمنينا لو كانت كذلك قابلة للشفاء.. ولكنها صفة ملازمة لصاحبها سترافقه طوال حياته.. ولكنها لا تمنعه أبداً من أن يكون مستقلاً ومعتمداً على ذاته في كل شؤونه وأموره..
هذا الواقع لم يتغير كثيراً حتى مع إقرار المعاهدة الدولية لحقوق الأشخاص المعاقين وما زالت الانتهاكات تتوالى، ومن النزر اليسير الذي تناهى إلى علمنا أن شركة طيران محلية لم تسمح لأحد المكفوفين وهو رجل أعمال وفني كمبيوتر بالسفر على متن إحدى طائراتها بحجة أنه كفيف وليس معه مرافق!!
كما أن شركة طيران أوروبية منعت اثنين من المعاقين يستخدمان كرسيين متحركين من السفر على متن إحدى طائراتها بحجة أنهما لا يستطيعان التحرك بمفردهما!! وطلبت الشركة وجود مرافق لأحد الراكبين رغم أنه أكد عدم حاجته للمساعدة من أحد، ورفضت كذلك رغبة المعاق الآخر في الاستعانة بأحد ركاب الطائرة ليكون مرافقاً له أثناء الرحلة.
ولكم أن تتخيلوا الأذى النفسي الذي لحق بهؤلاء وغيرهم جراء التمييز الذي مورس ضدهم وإشعارهم بالدونية وعدم الأهلية والعجز عن مباشرة أمورهم بأنفسهم، فضلاً عن الضرر المادي الذي نجم عن تعطيل مصالحهم وتأخرهم عن اللحاق بأعمالهم بسبب تأجيل سفرهم.
انتهاكات متجددة
ما جعلنا نعود إلى هذا الموضوع الإهانة التي تعرضت لها الإعلامية والشاعرة اللبنانية رولا حلو (ممن لديهم إعاقة حركية منذ 34 عاماً) إثر قيام أحد موظفي شركة الطيران بمنعها من السفر على متن رحلة كانت ستغادر من بيروت إلى القاهرة يوم الأحد 16 فبراير 2014 الماضي.
رولا تسافر وحدها كل شهرين أو ثلاثة أشهر مع الشركة نفسها، ولم يسبق أن منعت من السفر قبلاً، وهي جامعية وإعلامية تعمل في المجال منذ 15 عاماً، وشاعرة أصدرت ديوانها الأول قبل سنتين، وجدت نفسها تهان على مرأى ومسمع كل من كان حولها في المطار بعد أن مزق الموظف المعني بطاقة المرور خاصتها ومعها الأوراق التي وضعها الموظفون على كرسيها وحقائبها، وقال لها: (لا يمكنك السفر)، فاعترضت قائلة: (لكنني أسافر دائماً مع شركتكم ولم تمنعوني في السابق). فرد الموظف بحضور عدد من المسافرين وموظفي المطار وبقسوة بالغة: (قومي امشي لشوف… إذا تمكنت من السير سأدعك تسافرين)!!
غضبت رولا وبكت بحرقة وهي التي كرست عمرها لكي تستقل وتستغني عن شفقة الآخرين، وحاولت جاهدة أن تكون حياتها وسيرتها المهنية نموذجاً ناجحاً للأشخاص من ذوي الإعاقة قادر على التمتع بحريته الفردية وباستقلاليته وبكيانه المستقل، وهي لن تتوقف عند هذه الحادثة بل سترفع دعوى قضائية على الشركة لإهانتها وللتمييز السلبي الذي مورس بحقها.
وكتبت على صفحتها في الفيسبوك: (إعاقتي تسبق إنسانيتي، وتمنعني الميدل إيست من السفر لأني لا أمشي، أنا حزينة في وطن لا يحترم إعاقتي وعار علي أن أبقى هنا بين بشر لا يحترمون حياتي وانجازاتي ولا قدرتي على تخطي إعاقتي.. أنا اليوم أشعر أنني أبدأ كفاحي من جديد، من أجلي ومن أجل كل شخص مثلي في هذه القضية المحقة).
وبالفعل فقد شهدت مواقع التواصل الإجتماعي حملة تضامن غير مسبوق مع رولا، كما وجهت إدارة (اتحاد المقعدين اللبنانيين) كتاباً إلى رئيس مجلس إدارة الشركة تقول فيه: (بعد تكرار حوادث منع سفر الأشخاص المعوقين بكل بساطة لأنهم يسافرون من دون مرافق). واعتبرت فيه أن رولا الحلو منعت من السفر إلى مصر، وقيل لها إن السبب هو إعاقتها. كما أنها تعرضت للإهانة من قبل أحد موظفي الشركة، علماً أن هذه المواقف واجهت عدداً كبيراً من الأشخاص المعوقين المسافرين وتسببت لهم بالكثير من المعاناة لغاية تاريخه.
ورأت إدارة الاتحاد أن هذا التصرف يتناقض مع القوانين الدولية للطيران ومع الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص من ذوي الاعاقة، ومع مبادئ وقوانين منظمة السياحة الدولية والقانون اللبناني 220/2000 معتبرة أن المكتب الذي وصفته الشركة بـ (العصري) يفتقر إلى الحد الأدنى من شروط ومبادئ خدمة المسافرين المعوقين والنتيجة: تعريض حياة المسافرين المعوقين والمسنين للخطر والإهانة.
وحذرت إدارة الاتحاد من أنها (لن تقف موقف المراقب، أو المستنكر فقط أمام هذا الوضع في حال تكراره، لا بل سوف نبلغ الجهات المعنية في الدولة ونطلب منها اتخاذ الإجراءات الضرورية التي تضمن عدم تكرار ما يحدث)، محذرة من أنها ستحشد (التأييد لمقاطعة الشركة وسنراسل منظمة السياحة الدولية وسنقاضيكم ونراقب أداءكم).
إن الأذى النفسي والضرر المادي الذي لحق برولا وغيرها لا ينبغي أن يمر دون محاسبة، ولا بد من مقاضاة كل من يحرم شخصاً معاقاً من ممارسة حقوقه.. وإذا كانت شركات الطيران لا تقوم إلا بتطبيق اللوائح الخاصة بها والتي تأخرت عن مواكبة التطور الحاصل في كل العالم فعليها هي أن تؤمن المرافقين والمساعدين والخدمات المساندة بدل أن تختار الطريق الأقصر.. وبذلك لا تتخلف ممارساتنا العملية وأفعالنا عن أقوالنا وتشريعاتنا وقوانيننا التي ستأخذ طريقها إلي التطبيق حتماً ولو بعد حين.
وفي المقابل لابد من تثقيف زملائنا وإخوتنا وأبنائنا من الأشخاص ذوي الإعاقة بحقوقهم وكيفية ممارستها بما لا يتعارض مع النظم والقوانين المرعية وضرورة الاطلاع على كل ما يتعلق بهذه الحقوق.. كذلك نهيب بالجهات التي تستسهل انتهاك حقوق بعض الأشخاص أن تعرف قوانينها ونظمها وأن تطبقها بحذافيرها.. حتى تكون هناك قاعدة مشتركة وأرضية مشتركة للطرفين يتم الاحتكام إليها.
ومع هذا ـ ولأننا ندرك أننا نجد آذاناً صاغية لدى إخوتنا من ذوي الإعاقة ـ فإننا ننصحهم بالاطلاع على القوانين الخاصة بشركات الطيران والاحتفاظ بنسخ منها،.. واشعار الشركة الناقلة بوضع الراكب وأنه على سبيل المثال من مستخدمي الكراسي المتحركة لتأمين انتقاله من صالة الركاب إلى الطائرة وبالعكس.
وكل هذا لا يسوغ أبداً حرمان الشخص المعاق من إحدى حقوقه الإنسانية وهو حق السفر، وهذا ما ذهبت إليه المادة 20 من المعاهدة الدولية لحقوق الأشخاص من ذوي الإعاقة وللفائدة نورد نص المادة 20 من الاتفاقية التي تكفل حق التنقل الشخصي:
المادة ٢٠
التنقل الشخصي
تتخذ الدول الأطراف تدابير فعالة تكفل للأشخاص ذوي الإعاقة حرية التنقل بأكبر قدر ممكن من الاستقلالية، بما في ذلك ما يلي:
- تيسير حرية تنقل الأشخاص ذوي الإعاقة بالطريقة وفي الوقت اللذين يختاروﻧﻬما وبتكلفة في متناولهم؛
- تيسير حصول الأشخاص ذوي الإعاقة على ما يتسم بالجودة من الوسائل والأجهزة المساعدة على التنقل والتكنولوجيات المعينة وأشكال من المساعدة البشرية والوسطاء، بما في ذلك جعلها في متناولهم من حيث التكلفة؛
- توفير التدريب للأشخاص ذوي الإعاقة والمتخصصين العاملين معهم على مهارات التنقل؛
- تشجيع الكيانات الخاصة التي تنتج الوسائل والأجهزة المساعدة على التنقل والأجهزة والتكنولوجيات المعينة على مراعاة جميع الجوانب المتعلقة بتنقل الأشخاص ذوي الإعاقة.