في كثير من الأحيان تلقى علي وعلى العاملين في ميدان التربية الخاصة أسئلة عن تعليم الطلبة من ذوي الإعاقة سواء من العاملين في الميدان (المدارس) أو التربويين في إدارات التعليم أو بقية أفراد المجتمع. وكانت تلك التساؤلات حول العملية التربوية والنواحي النفسية والاجتماعية وأسباب الإعاقة ومستوى التحصيل الذي يصل إليه الطالب المعاق.. وكنت أسعد لهذه الأسئلة ولكن حين يأتي السؤال حول عملية دمج الأطفال المعاقين في مدارس التعليم العام تأخذ الإجابة والإقناع أبعاداً كبيرة قد تقنع المتلقي ويؤيد ذلك وقد يقتنع مجاملة وقد يرفض ويجادل في ذلك، وكان السؤال الدائم لماذا هذا الدمج.. ولماذا لا يتعلم الطلبة من ذوي الإعاقة في مراكز أو مدارس خاصة بهم؟
في الحقيقة كان هذا السؤال يؤلمني وخصوصاً عندما يصدر عن أناس تربويين، لأن مغزى سؤال الغالبية العظمى منهم هو الرفض لهذه الفكرة مبدأ وعملاً، وللإجابة عن تلك التساؤلات وايفاء السائل حقه بالمعرفة الغائبة عن كثير من فئات المجتمع لابد من الحديث عن الدمج من كل النواحي، وقبلها التطرق إلى تاريخ الأشخاص من ذوي الإعاقة وكيف كانت معاملتهم في المجتمع حتى وقتنا الحاضر.
في العصور الماضية عانى الأشخاص المعاقون من ذل وإهانة وتحقير وهدر للكرامة وخاصة في العصور اليونانية والإغريقية والرومانية، ففي العصر اليوناني نادى أفلاطون بضرورة إقامة مجتمع خال من الأشخاص المعاقين والعجزة والمشوهين وطالب إما بقتلهم أو تعذيبهم إلى أن يموتوا، وكانت حجته في ذلك أنهم أفراد غير صالحين للعمل والانتاج ولا يستحقون الحياة. لذا فقد اتسمت هذه المرحلة بالعزل والرفض.
بعد ذلك أتت مرحلة أخرى ليست أفضل من سابقاتها حيث كان يتم التعامل معهم بأن يهملوا في جوانب الرعاية والصحة حتى يموتوا، وقد اتسمت هذه المرحلة بالاهمال.
أتت بعدها مرحلة أكثر ايجابية من المراحل السابقة حيث تحسنت النظرة إليهم وكانت أكثر إنسانية خصوصاً بعد ظهور الديانات السماوية، حيث عرف المسلمون كثيراً من الانحرافات العقلية وتم علاجها ومعاملتها بطريقة إنسانية من خلال التمسك بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. وتذكر العالمة (روس Ros) أن في عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وانتشار الإسلام في الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي اجتاحت المكفوفين موجة من النور ذات آثار بعيدة المدى(*)، وقد نال المعاقون بصرياً قدراً من الاهتمام والرعاية في مجالات مختلفة من ضمنها العملية التعليمية فكانوا يتعلمون جنباً إلى جنب مع أقرانهم من غير المعاقين في الكتاتيب والمساجد، وكان هذا التغيير الايجابي قد بدأ منذ القرن السادس عشر حتى منتصف القرن الثامن عشر، وفي منتصف القرن الثامن عشر والتاسع عشر ظهرت حركات الإصلاح في أوروبا وأمريكا وتم إنشاء مؤسسات خاصة للأشخاص المعاقين (إيوائية) وذلك لحمايتهم من المجتمع الخارجي وكانت هذه النظرة تشاؤمية سلبية تجاه المعاق الذي لا يستطيع التكيف والعيش في المجتمع الذي يوجد فيه وبالتالي لم تقدم له خدمات الإيواء من مأكل ومشرب ومسكن ورعاية صحية بسيطة.
وعلى الرغم من سلبية تلك المرحلة إلا أنها أكثر إيجابية من المراحل السابقة وهي البداية الحقيقية لتقديم الخدمات للأشخاص المعاقين، فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وما خلفته من أعداد هائلة من الأشخاص المعاقين والمشوهين والمرضى النفسيين ظهر ميدان التربية الخاصة كاتجاه حديث في التربية له ارتباطات بالعلوم الأخرى مثل الطب والعلوم الإنسانية، ونتيجة لمطالبات الأهالي والمعاقين أنفسهم صدر قانون أمريكي مشهور رقم 94 ـ 142 لعام 1975 نص على ضرورة توفير التعليم المناسب لجميع المعاقين في بيئة غير مقيدة قدر الإمكان.
وقد اتسمت هذه المرحلة بالنظرة الايجابية والواقعية للاشخاص للمعاقين وحقهم في التعليم والعمل والتركيز على الجوانب التعليمية والمهنية وجوانب القوة والضعف لدى الشخص المعاق. وفي عام 1983 أتت مرحلة مهمة وهي امتداد للمرحلة السابقة وهي مرحلة الدمج التي أعطت للأشخاص المعاقين حقهم في المجتمع مثل أقرانهم من غير المعاقين في العملية التعليمية حيث صدر في هذه السنة قرار يؤكد على (أن على الدول الأعضاء إقرار سياسات تعترف بحق الأشخاص المعوقين في التعليم أسوة بالآخرين وحيث كان ممكناً، ويجب أن تقع على عاتق الجهات المسؤولة عن التربية التعليم، ويجب أن تشمل القوانين على إلزامية التعليم وحقوق المعوقين في التعليم بغض النظر عن درجة إعاقتهم)، وتوج هذا الاتجاه الحقوقي بالمصادقة على الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص المعاقين والتي تغطي موادها وبنودها مختلف جوانب حياتهم.. وقد دخلت هذه الاتفاقية حيز التنفيذ في مايو 2008 بعد مصادقة الدول الموقعة عليها.
من هنا أصبح الدمج أمراً واقعاً ووجهاً مشرقاً للتربية الخاصة الحديثة ـ التي انتشلت الشخص المعاق من النظرة الاجتماعية الدونية التي كانت تمارس ضده ـ وباعث نور وأمل في نفوس المعاقين وأسرهم. فقد أصبحت للمعاق حقوق في المجتمع مثله مثل غير المعاق ويجب أن يتمتع بها، وعليه واجبات يجب أن يؤديها على أكمل وجه.
إذن، شهدت أواخر القرن العشرين وتحديداً سنة 1979 مرحلة مزدهرة في الاهتمام وتربية الأشخاص من ذوي الإعاقة، سنتبعها ـ بإذن الله ـ بالحديث عن النظرة الواقعية الحالية لهذه الفئة.