لقد حظي مفهوم جودة الحياة باهتمام كبير في علوم الطب، والاقتصاد والاجتماع والسياسة، ويعد من المفاهيم الحديثة نسبيا في التراث النفسي؛ حيث ظهر مصطلح جودة الحياة كأحد الموضوعات في مجال علم النفس الإيجابي Positive Psychology، وهو مجال معاصر يهتم بدراسة الخصائص الإيجابية ونواحي القوة لدى الإنسان بغرض مساعدة الأفراد على إصدار السلوكيات المنتجة، والإسهام في النمو الشخصي والمجتمعي، والصحة النفسية. ويرى البروفيسور طلعت منصور (2005) أن جودة الحياة هي قضية (الإنماء) في الأساس، أي إنماء الإنسان وفقا لمستويات ومعايير الصحة النفسية الإيجابية، وترُجم المصطلح Quality of life في بعض البحوث العربية إلى (نوعية الحياة) (مثل العارف بالله محمد الغندور، 1999)، ويبدو أن الدراسات العربية قد استقرت على استخدام المصطلح (جودة الحياة) في مقابل هذا المصطلح الأجنبي، وقد تناوله الباحثون في المجالات العلمية المختلفة كل من وجهة نظره المتخصصة، ولعل القضية الأساسية هي كيف ينبغي تعريف وفهم هذا المصطلح، والفرق بين جودة الحياة بوجه عام، وجودة الحياة المرتبطة بالصحة أو بالإعاقات المختلفة.
لقد قدمت منظمة الصحة العالمية (WHO) World Health Organization عام 1948 تعريفا للصحة باعتبارها (حالة الكفاءة التامة الجسدية والعقلية والاجتماعية، وليست مجرد عدم وجود مرض أو نقص / عجز). وقد دفع تضمين مصطلح (الكفاءة) في تعريف منظمة الصحة العالمية إلى التركيز على الكفاية أو الحالة النفسية كما يدركها الفرد ـ ويقررها ـ عن نفسه self-reported باعتبارها المظهر الجوهري لجودة الحياة، وكان التعريف الذي قدمته منظمة الصحة العالمية للصحة نقطة بداية للجهود التي بذلت للتوصل إلى تعريف شامل ومتكامل لجودة الحياة؛ حيث قدمت مجموعة جودة الحياة في منظمة الصحة العالمية تعريفا شاملا لجودة الحياة على أنها (إدراكات Perceptions الفرد لمكانته في الحياة في سياق الثقافة ومنظومة القيم التي يعيش فيها، في علاقتها بأهدافه وتوقعاته ومستواه واهتماماته).
ومن خلال استقراء التراث البحثي حول المصطلح يمكن ملاحظة:
- وجود ثلاثة مستويات كمدخل لفهم جودة الحياة لدى الأشخاص وهي: الحصول على ضرورات الحياة الأساسية، والشعور بالرضا عن جوانب الحياة المهمة في حياة الفرد، وتحقيق مستويات عالية من المتعة الشخصية والإنجازات.
- جودة الحياة بناء متعدد الأبعاد يتضمن عددا من المؤشرات: الذاتية والموضوعية إلا أن الإسهام النسبي لهذه المؤشرات يتوقف على مستوى إدراك الفرد لأهمية كل مؤشر في حياته.
- جودة الحياة ذات طبيعة فردية ذاتية تعكس مدى إدراك الفرد لمكانته في الحياة على ضوء منظومة القيم في بيئته، ومدى رضاه عن الملاءمة بين الواقع والطموحات.
- جودة الحياة دائمة التغير بتغير العوامل الخارجية والداخلية المسهمة في تحقيقها ومستوى إدراك الفرد لأهمية هذه العوامل ومستوى رضاه عنها.
لقد ناقش بعض الباحثين تأثيرات الإعاقة على جودة الحياة الفردية والأسرية ـ والذي قد نتناوله لاحقا ـ. ومن الأعمال العلمية الحديثة والمهمة التي عالجت تأثير الإعاقة على جودة الحياة، ذلك المرجع الذي وضعه Brown and Brown)) بعنوان: Quality of life and disability (2003) وقد أشار هاذان الباحثان إلى أن التعريفات والتوصيفات المبكرة لجودة الحياة قدمت عددا من أهداف جودة الحياة، وطرق تحقيقها، كما وفرت أفكاراَ حول وظائف جودة الحياة، وأوضح الباحثان أن أهداف جودة الحياة: تتضمن تحقيق الكفاية الجسدية والرفاهية الانفعالية والمادية، والرضا عن الحياة، وبناء وارتقاء مفهوم ذات إيجابي، وتعزيز المعنى الشخصي، وتعزيز جوانب مختلفة من الحياة، والاستمتاع بالحياة، وتحسين الظروف الاجتماعية والبيئية، وإشباع الحاجات، وأن طرق تحقيق هذه الأهداف هي إدراك الحاجات وتعرف الفرد على مشاعره حول الأمور الجيدة في حياته وتعرف الفرد على الطرق التي يتبناها ليمارس الحياة والاستجابة لما هو مهم للأفراد والتحقق من إتاحة الفرص (للاستمتاع بالحياة) وتحسين الإندماج الاجتماعي والبيئة الاجتماعية.
أما كيف تؤدي جودة الحياة وظائفها؟ فمن خلال حساسية المفهوم والتفاعل بين الفرد وبيئته والتداخل والتركيب بين المقاييس الموضوعية والذاتية واختزال التناقض أو الفجوة بين ما هو متاح للفرد وما يحبه ويحققه فعلاً.
وناقش براون وبراونBrown and Brown (2003) خمس أفكار جوهرية في المدخل إلى جودة الحياة وهي:
- إن جودة الحياة تنصرف إلى الجوانب والخصائص والعمليات المتشابهة التي توجد لدى جميع الأشخاص، وبصفة عامة تنصرف إلى الأشياء المهمة لكل أفراد الجنس البشري، ولهذا فإن قضايا مثل التغذية، الصحة والإسكان والترابط الاجتماعي والراحة هي قضايا مهمة لكل الأشخاص سواء كان لديهم إعاقة أو لا، والذين يعيشون في كل الأقطار وفي مراحل مختلفة عبر التاريخ.
- جودة الحياة شخصية Personal؛ فعلى الرغم من أن جودة الحياة تنصرف إلى العمليات المتشابهة لدى جميع الأفراد فإن هذا التشابه يتغير عندما يقرر كل فرد اختياراته، ويستجيب لحاجاته الفريدة، ولهذا فإن جودة الحياة هي أيضا معنى شخصي، وهي تعني شيئا مختلفا ـ قليلا ـ عند كل فرد، ويوجد تفاعل فريد بين الفرد وخصائص بيئته وهذا التفاعل هو الذي يحدد جودة الحياة، كما أن فهم هذا التفرد والتدخل الفعال هو المفتاح للمساعدة على فهم جودة الحياة.
- يستطيع الأفراد الحكم على الجوانب المحددة لحياتهم.
- ترتبط كل جوانب الحياة ببعضها البعض؛ حيث تؤثر الحالة المادية على أنشطة وقت الفراغ وتؤثر كلتاهما على ارتباطاتنا الاجتماعية بالإضافة إلى أن البيئة تؤثر في كل جوانب حياتنا، وتؤثرهذه الجوانب بدورها في البيئة.
- جودة الحياة دائمة التغير؛ فتتغير جودة الحياة من سنة إلى أخرى ومن يوم إلى آخر، ويمكن لأي عدد من الأحداث المخططة أو غير المخططة أن يحدث تغيرا في جودة حياة الفرد، وبمرورالزمن تتغير أولويات الفرد وتقييمه لأشياء مختلفة، وتبعا لذلك توجد اختلافات في جودة حياة الفرد تبعا لاختلاف العوامل المسهمة في تحقيق جودة حياته.
من مراجع المقال:
- البوفيسور طلعت منصور (2005)، الصحة النفسية كسياسة اجتماعية من أجل جودة الحياة. بحث مقدم إلى المؤتمر الدولي الثاني (الصحة النفسية في دولة الكويت)، الكويت: مكتب الإنماء الاجتماعي، 1-4 ابريل، 343-372.
- العارف بالله محمد الغندور (1999)، أسلوب حل المشكلات وعلاقته بنوعية الحياة. دراسة نظرية مقدمة إلى المؤتمر الدولي السادس حول جودة الحياة. جامعة عين شمس: مركز الإرشاد النفسي، 1-177.
- Brown, I., & Brown, R. I. (2003). Quality of life and disability: An approach for community practitioners. London, UK: Jessica Kingsley Publishers.
د. سهير عبد الحفيظ عمر (أم الرجال),
- استشاري التربية الخاصة وتأهيل الأطفال الصم المكفوفين.
- حاصلة على أول دكتوراه في الوطن العربي تتناول تنمية التواصل لدى الأشخاص الصم المكفوفين، تجمع بين الدراسة العلمية ـ كباحثة أكاديمية لها العديد من الدراسات ـ والخبرة والممارسة العملية التي تنوعت بين أمومتها الخاصة لاثنين من فاقدي السمع المتميزين ذوي التجارب الرائدة والعمل في مجال تأهيل الأطفال ذوي الإعاقة السمعبصرية.
- تمتد خبرتها العلمية والعملية في مجال الإعاقتين السمعية والسمعبصرية إلى ما يقرب العشرين عاما، تعمل كمستشار لعدد من الجمعيات والمواقع الإلكترونية العاملة في مجال الإعاقة.
- عضو مجلس أمناء مركز القاهرة للتدخل المبكر واتحاد كتاب مصر واتحاد كتاب الإنترنت العرب.
- محاضر ومشارك في عدد من المؤتمرات والدورات وورش العمل المحلية والعربية والدولية المتخصصة في مجال الإعاقة.