ملمس الأشياء
هل تشعر بأنك أقل قيمة؟ أم هل يشعرك المجتمع بذلك لأن كثيراً من أفراده يعتبرونك غير قادر على الفعل، أو التفكير في أي شيء حتى في الأمور التي تخصك.. لذلك فهم يفكرون بدلا عنك لأنك من أصحاب الحالات الخاصة؟
يظن الكثيرون أن أصحاب الحالات الخاصة معاقون.. ويلتصق ذلك في ذهنهم بطريقة يصعب تخليصهم منها، وموقفهم محير!!
فصاحب الحالات الخاصة في نظرهم غبي وذكي في الوقت نفسه، غير قادر على الفعل، لكنه يعمل أفضل من الآخرين، لديه موهبة لكن من الأفضل التفكير بدلا عنه!!
وعشرات المواقف المحيرة التي تثير الضيق لحد الغضب، وقد لازمني الغضب سنوات.. ثم اكتشفت أنني كنت أوجه غضبي لأشخاص وبشكل شخصي، بدلا من توجيهه ناحية الأوضاع والقضايا، وعندما تبينت الخطأ استطعت التقدم وبصورة جميلة.
إن صاحب الحالات الخاصة ليس معوقاً، ومن يعتبرون أنفسهم معاقين هم فئة تبحث عن الشفقة، عاجزة عن الاندماج في المجتمع.. مع استسلام لكسل تام أو يأس مطلق، وعن نفسي فأنا مثلي مثل أي شخص آخر.. وكل شخص يملك طاقات كامنة قد تثير دهشة الذي يملكها عندما يكتشفها.. يختلف صاحب الحالات الخاصة في شيء واحد.. إصابته التي تسبب ضعفه.. ويكون السؤال المطروح.. هل يمكن تحويل هذا الضعف إلى قوة؟
بالنسبة لي استطعت أن أحول الضعف إلى قوة.. إن الصمم جعلني أتخلص وبشكل تدريجي من غالبية المعوقات الأخرى، وأن أطرحها جانباً، وأقصد بتلك المعوقات الأخرى تلك الأمور الصغيرة التافهة في الحياة.. مثل الحسد والطمع والحقد والكراهية.. وهى معوقات تؤدى إلى تفاهة في التفكير وانحطاط المستوى الإنساني، وكلها معوقات تصيب كثيراً من الناس.. لكنهم لا يلتفتون إليها.. كأنها من طول العشرة أصبحت رفيق درب وأسلوب حياة.. فهل يحق لنا عندما نستيقظ من النوم أن نسأل:
من سنكره اليوم وعلى من سنحقد؟ وأي شخص يستحق الحسد أكثر من غيره؟
أليس من واجبنا أن نسأل أسئلة مختلفة مثل:
كيف سأطور نفسي اليوم؟ هل سأجعل أخلاقي أفضل؟
كيف أساعد اليوم.. ومن يستحق المساعدة أكثر من غيره..؟
وتأتى الإصابة مثل الصمم لتفرض نفسها بقوة على النفس الإنسانية.. فهي تجعلك تعيش في عالم صامت، وبشكل مطلق كأنك تعيش في قبر، لكن هذا الضعف المخيف استطعت تحويله إلى قوة.. تفرغت كثيرا لأنصت جيدا لدواخلي.. مستكشفا أغواري، وهالني أن أجد هناك في ذاك البعد السحيق داخل نفسي أشياء مقيتة ومخيفة.. حسدا وحقدا وشرا.. كأن الشيطان متربع هناك بمتعة مستغلا ضعفي، حينها أدركت أنني لكي أتقدم فينبغي أن أتخلص منه، ومن كل المعوقات التي تقيدني، وصممت أن أخوض معركتي ضد عدو يقبع داخل نفسي.. وقد استطعت أن أتغلب.. ولكن ليس بشكل مصيري وحاسم في موقعة فاصلة.. بل كنت كل يوم أناضل وأتقدم خطوة وراء خطوة.. وكثيرا ما شعرت بالضعف واليأس.. ولكن عندما أركع وأبدأ رفع يدي بالاستسلام، أجد الموت يقف أمامي مبتسما ابتسامة ساخرة ومقيتة.. فينتابني الرعب.. لأن قلبي سيضيع في الظلام ويسحق في العدم، فأنهض وأعيد ترتيب ما هو مبعثر من نفسي.. ثم أبدأ في النضال من جديد..
وتدريجيا استطعت أن أحب الأشياء حتى أكاد أن ألمسها بروحي.. فما أجمل لمس نور القمر ونسمات الهواء ودفء الليل.. وخفقات قلوب الضعفاء والمحرومين في هذه الدنيا.. وأصبحت تموجات الصحراء ولمس الريح وحركة البحر، والوجوه الحزينة للمحرومين والدموع على عيون المظلومين، والضعفاء في هذه الدنيا هي مصادر إبداعي.. ومع الزمن اندهشت لحجم التغير الذي طرأ بداخلي.. وتعجبت من القوة التي أصبحت أملكها.. وها أنا الآن أتعجب من ضعف الآخرين وأسأل نفسي كيف أستطيع القيام بأشياء يعجز كثيرون غيري عن القيام بها مثل عملية الإبداع.. لكن السؤال لا يتفجر بفعل الغرور الذي يقتل.. بل تعجب تصاحبه رغبة في تقدم الآخرين.. لإيجاد مجتمع أفضل وأكثر قيمة..
أما الصمت الذي نظرت إليه يوما كقبر انسحق فيه.. أصبح ذاك الصمت نفسه أجمل وأفضل رفيق لدرب طويل شاق ومؤلم..
لكن هل الإبداع استكمال لنقص داخلي أشعر به فأبدع محاولا إحداث توافق؟ أم نقص خارجي في واقع المجتمع أحاول استكماله بواقع متخيل؟
سأحاول الإجابة عن طريق رسم لوحة بالقلم لفتاة صغيرة تقف على رصيف مدينة وتحاول أن تعبر الطريق.. لكن حركة السيارات المستمرة تمنعها.. والحركة لا تتوقف رغم إشارات المرور بالتوقف.. يأتي فنان فيرى المنظر ويصيح: ما هذه الفوضى؟ أين الضمير؟ ألا يرون هذه الطفلة؟.. يأخذ الفنان القلم ويضيف للمنظر عسكري مرور يوقف السيارات ويسمح للفتاة بالمرور.. ينصرف الفنان بعد أن عبر عن موقفه بأنه في حالة غياب الضمير فالنظام بحاجة للقوة المباشرة لتفرضه، فنان آخر يأتي فلا يعجبه الوضع ويتساءل بغضب: فتاة صغيرة ضعيفة وحدها تعبر الطريق؟ أين الضمير..؟ أن عسكري المرور وحده لا يكفي فقد تندفع سيارة طائشة تقتل الفتاة.. لذلك هي بحاجة إلى الحماية فيضيف للمنظر رجلا قويا يأخذ بيد الفتاة ويسير معها بحذر حتى الرصيف الآخر.. ينصرف الفنان بعد أن عبر عن رؤيته: فالطفولة بحاجة للحماية من جنون الآخرين.. يأتي فنان آخر ويتأمل المنظر لكنه يهز رأسه رافضا.. مؤكداً أن النظام والحماية وحدهما لا يكفيان وأن وحدة الطفلة ستظل قائمة وأنها بحاجة إلى لمسة حنان فيضيف للمنظر امرأة تأخذها من يد الرجل وتحتضنها وتقبلها قبلة حانية ولا تتركها..
لقد أجريت إضافات على المنظر، وهى النظام والحماية واللمسة الإنسانية من وجهة نظر مختلفة لأشخاص مختلفين، لقد عبر كل فنان عن موقفة حيال وضع وقضية.. أما الوضع فهو الفتاة الصغيرة العاجزة، المعبرة عن الضعف البشري والعجز، أمام القوة الغاشمة والفوضى والقهر..أما القضية فهي غياب الضمير، مما ينتج تحجر القلب البشري وموته.. والأعمال الفنية والأدبية، في إبداعها المتخيل، تحاول أن تخلق عالما أفضل من الواقع الموجود.. استكمالا لنقص قد يجده المبدع في مجتمعه، وهو نقص يسبب خللا وعيوبا يرفضها، وباستكمال النقص يكون عالمه الفني قد اكتمل منتظرا تأثيره على المجتمع عن طريق نشره. إن رفض الفنان بعض ما يوجد في الواقع هو غضب دائم وبدون هذا الغضب لن يستمر أي فنان أو كاتب في العمل، والمبدع الذي وصل إلى حالة سلام تام مع مجتمعه، وكف عن الشعور بالغضب يكون انتهى فنيا.. وعن نفسي فغضبي ينتج حالة نفسية خاصة ومتميزة ومختلفة عن غيري، تلك الحالة النفسية تطمح للشعور بالتوازن.. ولن أحقق هذا التوازن ألا بتفريغ ذاك الصخب الذي يعتمل بداخلي في عمل أدبي..
وربما من هنا جاء الاتهام لبعض المبدعين بالجنون.. من القلق غير المألوف، من الصخب، من الدوران في متاهة.. ومن التصرف أثناء تواجدهم وحدهم بشكل غير عقلاني.. وفي خضم العملية الإبداعية كأنهم في حالة ولادة عسيرة.
الخلاصة
إن المبدع الحقيقي شخص غاضب باستمرار وإنسان مكتمل العقل، يملك تنظيم أفكاره وصياغتها بشكل فني يحدث تأثيرا في النفس ويطرح العديد من الأسئلة لا يطرحها غيره، ولا يحتمل الإجابات الجاهزة.. يطلب باستمرار تغيير العالم ليكون مكانا أفضل للعيش فيه بسلام ويعمل على تحقيق ذلك في عالمه الفني.. إنه شخص مختلف.. لا يضعف ولا يقبل الاستسلام.. ذلك الثراء الخلقي الذي يملكه وتلك القدرة التي تحركه.. ناتجان عن تفتح عميق على الحياة، المبدع الصادق حتى في عزلته، متصل بروافد حياتية غنية تمنحه طاقة مشعة.. وبدون تلك الروافد يموت كما تموت البحيرة المغلقة.
سعيد رمضان على، إسكندرية، مصر
عمل في شمال سيناء، زار غزة عدة مرات ثم أقام فيها عدة سنوات وحاليا مقيم في الإسكندرية.
أصيب بالصمم في سن مبكرة، كان من أثره تركه الدراسة المنتظمة، فلم يستكمل تعليمه النظامي، لكنه استمر في الدراسات الحرة.
الأعمال والتكريم
- روح هائمة، رواية، دار نشر ميدلايت 1990، القاهرة.
- الأرض والنهر، مجموعة قصصية، دار نشر ميدلايت 1991، القاهرة.
- السينما المصرية والإعاقة، دراسة 2005، مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية.
- سيناء (الأهمية والمعنى) الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة 2008، القاهرة.
- رواية أمواج ورمال، دار نشر فكرة. 2009، القاهرة.
- مسرحية الانهيارات، دار نشر هفن، 2009، القاهرة.
- السمورة وأنا، سيرة روائية، دار الأدهم للنشر، 2013، القاهرة.
- مقالات نقدية في الأدب والسينما والفن التشكيلي الفلسطيني، نشرت في مجلة الثقافة الجديدة، وعلى عدة مواقع مختلفة.
- كرم من الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر في مؤتمر الإسماعيلية الأدبي عام 1995.
- حصل على شهادات تقدير من المجلس الأعلى للشباب والرياضة بمصر في مركز إعداد القادة بالقاهرة عن أعماله في القصة القصيرة، والمسرح وذلك عامي 1995، 1996.
- كرمته الشيخة جميلة بنت محمد القاسمي مدير عام مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية 2005 في ملتقى المنال عن دراسته (السينما المصرية والإعاقة)
- استضافه المؤتمر العلمي الأول حول قضايا ذوي الاحتياجات الخاصة بالقاهرة عام 2009.
نقد ودراسات عنه
دراسة عن روايته روح هائمة للناقد محمد قطب نشرت في كتاب مؤتمر إقليم القناة وسيناء الثقافي 1995.
دراسة عن مجموعته القصصية (الأرض والنهر) للناقد الدكتور محمد حسن عبد الله نشرت في كتاب مؤتمر إقليم القناة وسيناء الثقافي عام 1995.
دراسة عن مسرحيته الانهيارات للدكتور نادر عبد الخالق بعنوان البناء والتخطيط في مسرحية الانهيارات نشرت في جريدة الزمان مايو، 2019.
دراسة عن مسرحيته الانهيارات للناقد العراقي صباح الأنباري بعنوان (الانهيارات من بداية السقوط حتى نهاية الهزيمة) نشرت على موقع الناقد على النت.
دراسة في مجموعته الصمت للناقد سيد الوكيل، نشرت في كتاب أبحاث المؤتمر العلمي الأول، هيئة قصور الثقافة 2009، القاهرة.
دراسة عن رواية أمواج ورمال للناقد حاتم عبد الهادي نشرت في نشرة مؤتمر اليوم الواحد بالشرقية.
مقالات نقدية عن بعض قصصه القصيرة للناقد سمير الفيل نشرت بموقع القصة العربية.