الدم.. تاريخ ملحمي للطب والتجارة
Blood: An Epic History of Medicine and Commerce
يمكنك أن تسأل أي طالب يدرس الطب عن شعوره وهو يراقب أول مرة تلك الكريات ذات اللون الأحمر الداكن في العصارة الواهبة للحياة التي تقطر على نحو مهيب من الكيس البلاستيكي عبر الأنبوب نصف الشفاف إلى داخل الوريد لتندمج في سيل الخلايا الأصلية التي تجري في الأوردة الناضبة لمريض فقر الدم. إنها لحظات مقدسة ذلك أن حياة الجسد في الدم، كما كتب في العهد القديم مؤلف سفر اللاويين، أما فيما يتعلق بالطبيب فإن تسريب كامل الدم أو أحد مكوناته إلى شخص مريض أو جريح هو فعل لقوة لا تصدق.. وهو فعل غواية أيضاً.
فعل القوة
أما القوة فلا مراء فيها حتى فيما يتعلق بشخص معلوماته الطبية محدودة (حدد الزمرة الدموية واختبر توافق دم المعطي والمتلقي من دون إبطاء) تلك هي الصيحة التي تدوي في مراكز الرضح وغرف الطوارىء والعمليات في أصقاع البلاد كلها، سواء كانت حقيقية أو ضمن حفلة منوعات ساخرة تصورها أسبوعياً شبكات التلفزة.
فإذا سار كل شيء على ما يرام، تم بعجلة كبيرة فحص السمات (المياسم) الخاصة باختبارات مجموعات / زمر الدم، ثم يعاد فحصها من جديد للاطمئنان على توافقية معطي الدم ومتلقيه، وما إن ينجز ذلك حتى تبدأ المادة اللزجة الغنية بالهيموجلوبين بالجريان عبر قثطار أو إبرة واسعة الفتحة، فتعاد الحياة (بفضل بنوك الدم الحديثة والتقدم التقني الذي حققته) إلى نفس بشرية كان الهلاك مصيرها قبل عقود قليلة.
وبالإمكان أيضاً تأمل حالة المنعور (النزف الدموي ـ الهيموفيليا) الذي يملي عليه صبغيه (كروموزومه) Y مصيراً محزناً.. إنه يفتقد وإلى الأبد بروتيناً سكرياً حاسماً وضرورياً لتشكيل جلطة دموية قوية وقبل أن تصبح عوامل (أدوية) التجلط الدموي متاحة كان ارتطام بسيط للركبة يستدعي قضاء عدة أيام في معالجة نزف مفصلي يعقبه التهاب مفصلي معقد. كما أن استئصالاً عادياً للوزتين أو للزائدة الدودية سينتهي إلى موت نزفي محقق.
واعتماداً على تقنيات فصل الدم التي طورت في الخمسينات والستينات فإن طيفاً واسعاً من الأدوية غزا الصيدليات ولقد توّج ذلك كله رُكازة العامل VIII (العامل الثامن) التي أنتجت من مئات ثم من آلاف وحدات البلازما (المُصوّرة)، وفي السبعينات، عالج الأطباء المحافظون مرضاهم بالعامل VIII (حسب الطلب)، أي أن هؤلاء المرضى سوف يحقنون أنفسهم لدى حدوث النزف. حتى أن قلة من الدعاة المتطرفين حبذوا استعمالاً اتقائياً باستخدام العامل VIII، وماذا كانت النتيجة؟ لقد خرج فجأة (الأولاد النزوفون) (الذين كانوا يقنعون بالتمدد على الآرائك المزدحمة بالوسائد وكتب القصص) ليمارسوا الرياضة وقد حررتهم من قدرهم الوراثي عبوة صغيرة من مسحوق بلّوري! إن هذه هي القوة فعلاً.
فعل الغواية
ويأتي الآن التساؤل عن كيف يمكن للدم أن يكون أداة غواية؟ باديء ذي بدء، يمكن أن نزيل من مخيلتنا أبطال الروايات ذوي الأنياب قاطني جبال الكاربتوس بنزواتهم الشهوانية وشفاههم الممرغة بالدم. إن من يرى دماً مراقاً بكمية كبيرة لن يبدو له النزف أمراً جنسياً، بل إنه أمر مثير للرعب حقاً. إن السجل الطبي الأكثر قدماً يشير إلى أن امكانية التعامل مع الدم في الجسم ألهبت مشاعر بغض الممارسين بافتتان يصل إلى حافة الفورة. ويشهد على ذلك تقليد عمره 2500 عام يتمثل بفصد الدم الذي أمات جورج واشنطن عام 1790، أو في أوروبا القرن السابع عشر حيث جرب البعض إبطال الإضطرابات العقلية العنيفة بتسريب دم (وديع) من عجل أو حمل.. فهل من الممكن أن يكون الدم ـ في وقت كانت الغيبيات ترجح على المعرفة ـ قد وهب الأطباء من قوته الافتدائية الرمزية مذاقاً إدمانياً عن السلطة الأسطورية؟ إنه لتساؤل مشروع.
ومؤخراً في النصف الثاني من القرن العشرين، أغوت أسرار الدم ليس فقط السعاة الروحانيين والعمليين وإنما مجموعات الاتجار بالدم من ذوي الأنوف المستشعرة بالمال، ويشمل هذا الجيل الجديد من تلامذة الدم التجار العالميين المعروفين أحياناً بجشعهم وباستغلال البشر، فضلاً عن كونهم مسؤولين في أعين بعض المحلفين وغلاة مراقبي المهن الطبية عن الإهمال الفاضح لقسم أبقراط: (أولاً، لا تؤذ أحداً). ومثلما أن استكشاف العالم بركوب البحار في القرن الخامس عشر قد نشر جائحة عالمية من مرض السفلس (الإفرنجي) Syphilis، فإن الاتجار العالمي اللاشرعي بمنتجات الدم قد ترافق على نحو مأساوي مع الانتشار الشامل للفيروسات المنقولة بالدم مثل الفيروس HIV (فيروس العوز المناعي البشري) وفيروس التهاب الكبد من النمطين B و C. وبطبيعة الحال، يوجد فرق جوهري واحد على الأقل بين حقبتنا وحقبة كولومبوس، فنحن نمتلك اليوم (في عالم طبي واحد) وسائل لفحص الشحنات البيولوجية المتاجر بها. ولكن هل نستعمل هذه الوسائل؟ من المحزن أن نجيب: ليس دائماً. ومع أن معدل المجازفة الحالي بالإصابة بالفيروس HIV من عملية نقل واحدة للدم يتراوح في الولايات المتحدة ما بين واحد في 100.000 وواحد في 500.000، فإن الصورة مختلفة في البلدان الأخرى، ففي إفيرقيا وشبه القارة الهندية مثلاً يقدر الخبراء أن نقل الدم من متبرع واحد أو منتجات دموية من متبرعين متعددين مسؤول عن 10 في المئة على الأقل من مجموع حالات العدوى (الخمج) بالفيروس HIV.
الأبطال ونقائض الأبطال
إن الحقائق والهوامش السابقة لحوليات الدم (بما في ذلك الطيف المتنامي لتلوث الدم في مختلف دول العالم) موضحة بوفرة في الكتاب الجديد للمؤلف (ستار) (الدم: تاريخ ملحمي للطب والتجارة). وكان بإمكاني أن أخشى على كاتب متمرس في الصحافة العلمية كالبروفيسور ستار أن يجد صعوبة في الإقناع بكتابه لولا ما أورده من الفضائح المرعة، كالإدانة والسجن لثلاثة من كبار الأطباء الفرنسيين وزعوا ـ مع علمهم المسبق ـ العامل VIII الملوث بالفيروس HIV لمواطنيهم المنعورين Hemophiliac، وللعمل المخزي الذي نشر عام 1977 عن فرط الاستدماء اللاإنساني للنيكاراكويين السيني التغذية بغية الحصول على البلازما لشركات الأدوية المنتشرة في العالم الصناعي (هنالك حقيقة غير معلنة تستشير القشعريرة.. لقد اغتيل الصحافي (شامورو) بعد انقضاء شهرين على نشره إحدى افتتاحياته عن (الذهب الأحمر) والتي لاقت رواجاً كبيراً). ولكن وفقاً لمنطق التاريخ، وبصياغة ستار البارعة، فإن العقدين الماضيين شهدا تشابكات لم يسبق لها مثيل في الاتجار الواسع بالبلازما، وفي الانتشار الكبير للفيروس HIV، وفي التزايد المستمر لمطالبة الرأي العام في العالم الأول (الصناعي) بضرورة الكشف عن الإصابات الناجمة عن نقل الدم ومناقشة أمورها وأنواع الجزاء القانوني المترتب عليها.
وباستثماره الكامل لهذه المعلومات، التزم ستار بسرد تاريخي دقيق للأحداث الوفيرة لسجلات نقل الدم. وكانت النتيجة كتاباً عميقاً ورصيناً يوازن بين الغيرية (الإيثار) والفساد وبين التبصر والتهور، واصلاً بعناوين مهمة إعلامياً بين الاكتشافات التاريخية الأساسية (كاكتشاف الزمر الدموية وتطوير مضادات التخثر) وتصميم بعض الأجهزة (كالمباضع والقُنيّات وعبوات التخزين).
ويبرز أيضاً في صفحات ملحمة ستار أبطال ونقائض أبطال، من بين هؤلاء (كاريل) الفرنسي المغترب الذي أنجز عام 1908 في مدينة نيويورك أول نقل دموي حديث بخياطته وريد ساق طفلة بشريان ذراع والدها، و(بيثون) الكندي الثوري الذي حمل بيديه الدم إلي الخطوط الأمامية أثناء الحرب الإسبانية الأهلية، وكبير جراحي الجيش الأمريكي (كيرك) (وهو طبيب عظام) الذي عارض على نحو مفجع شحن الدم الكامل إلى ساحات القتال في النورماندي، و(نيتو) عالم البكتيريا الياباني الذي أمضى الحرب العالمية الثانية في التصميم السري لقنابل الطاعون والذي كرّس حياته فيما بعد للنواحي الطبية المتصلة بنقل الدم المنقذ للحياة وافتتح في شهر مارس 1951 بنك الدم الياباني التجاري (الذي ألغى بسرعة معظم فاعليات منظمة الصليب الأحمر المحلية التي ابتليت بعدم تقبل المواطنين اليابانيين العاديين فكرة الربط بين التبرع بالدم وكبرياء المواطنة). وأخيراً هناك قادة الآراء المتعارضة ذوو النوايا الحسنة خلال الخمسين عاماً المنصرمة من تاريخ بنوك الدم في أمريكا.
ويسلط ستار الضوء على واحد من الأبطال العديدين المعروفين (وإن عملوا كجنود مجهولين) الذين تنبؤوا بخطر مشكلات الدم و(مصانع البلازما) المتعددة المصادر، وهو هنا يشير إلى (ج. آلن) (الجراح في جامعة ستانفورد) الذي ربما كان أول من حذر في الخمسينات من أخطار الفيروسات الخفية في الدم (وفي البلازما) الذي يؤخذ من أشخاص تقاضوا ثمناً لذلك. ولقد أثبت في العام 1966 (وبعد سنوات طوال من البحث العلمي المفرط في الدقة) أن مرض التهاب الكبد يزيد 10 مرات في المرضى الذين تلقوا دماً مدفوع الثمن على ما هو عليه في المرضى الذين تلقوا دماً من متبرعين طوعيين. وعلى مدى سنوات عدة، ناشد آلن الهيئات الصحية لدى الحكومة الفيدرالية والولايات بتبني نتائج بحوثه، طالباً إلى مراكز التبرع بالدم أن ترفض أخذ الدم من المساجين ومن حثالة القوم من السكيرين والداعرين، كما طلب إلى الأطباء أن يحدّوا من استعمالهم منتجات الدم (بإجراء نقل دم واحد عوضاً عن إثنين، وبإجراء نقلين عوضاً عن ثلاثة). ومما يؤسف له أن آراء آلن ظلت سنوات عديدة لا تترجم إلى أفعال. وكما يشير ستار، فإن جمع الدم من المساجين في فرنسا استمر حتى الثمانينات، وذلك على الرغم من الأدلة التي لا تقبل الجدل على الخطورة التي ينطوي عليها هذا الجمع.
ويوضح ستار في هذه العجالات مدى صعوبة الفصل في اللعبة بين الأخلاقيات الطبية والأخلاقيات البشرية التي تناولت مؤخراً سائل الحياة الأكثر نفاسة. وحينما أرجع بذاكرتي إلى أيام الشباب، وإحساسي بالروعة أمام سحر عمليات نقل الدم، فإنني أعتقد اليوم بأن مقالات نقدية ثاقبة الفكر يمثلها كتاب الدم: تاريخ ملحمي للطب والتجارة يجب أن تضاف إلى منهاج السنتين الأولى والثانية لدراسة الطب. وأود أن أضيف لزملائي الحاشية التالية: دعونا لا ننسى أبداً الثمن الباهظ الذي دفعته البشرية بسبب عدم اليقظة تجاه الآثار التجارية والبيروقراطية في مهنتنا. ومما لا لبس فيه أن الطب الحديث يمثل لعبة ذات رهان كبير جداً. وسنوصم، على حق، بالقصور إذا وثقنا بأن الهيئات غير الطبية ستعمل دائماً على أفضل وجه لصالح مرضانا.
صحافية طبية، وهي أستاذة الطب الباطني والأمراض المعدية (الخمجية), في كلية الطب بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس. نشرت مقالاتها مؤخراً في مجلات Discover و Los Angeles Times و Chicago Tribune