أثناء بحثي في موضوع متعلق بحقوق المعاقين عقلياً. وجدت تقريراُ أنتجته وبثتّه قناة «بي بي سي» العربي تحت عنوان «جدل في الاردن حول إزالة أرحام الفتيات المعاقات»، وهو تقرير حول عمليات جراحية تجرى في الأردن لإزالة أو جراحة في رحم النساء والفتيات المعاقات عقلياً بطلب من ذوي الفتيات، لوقف الدورة الشهرية أو لأسباب متعلقة بالخشية من اغتصاب فتيات يعانين التأخر في النمو العقلي.
الجانب الذي يؤيد إجراء هذه العمليات في التقرير، يميل إلى الرحمة بأولياء الأمور الذين يلاقون جهداً في العناية بفتيات لهن أجساد ناضجة بينما عمرهن العقلي لا يتجاوز سن الرابعة أو الخامسة، لذلك لا يستطعن الاعتناء بأنفسهن أو تفهم العلاقة بين النظافة والطهارة والمرض نتيجة لمس أجزاء ملوثة من أجسادهن أثناء الدورة الشهرية، ثم لمس طعامهن، هذا عدا عن عدم مقدرتهن بالعناية بأنفسهن. خصوصاً وأن من يعتني بهن عادة والداتهن، وبعض هؤلاء الأمهات كبيرات في السن، ويخشين في حالة وفاتهن أن تتعرض بناتهن للإهانة لعدم وجود من يراعيهن. وهناك نسبة من الأهالي عبرت عن خشيتها عليهن من اغتصابهن وهن لا يملكن أدنى مقومات الدفاع عن أنفسهن ولا يستطعن مواجهة احتمال تبعات هذا الاعتداء.
بينما الجانب المعارض يتحدث عن عدم وجود فتوى شرعية تجيز هذا التدخل الجراحي، أو بسبب فكرة انتهاك حق المريض قانونياً، بالتدخل في جسده دون أخذ رأيه حتى لو كان معاقاً عقلياً ولا يملك المقدرة على تمييز ما ينفعه أو يضره.
لن أتحدث هنا عن مبررات الحاجة لإيجاد حل فوري لهذه المأساة، ولكنني أتحدث عن الجانب الأخلاقي من مهنة الإعلام في مثل هذه القضية، والمتعلق منها بازدواجية معايير «بي بي سي»، وانتهاك حق هؤلاء الفتيات بتصويرهن وعرض تقرير عنهن على الملأ لمجرد أنهن من ذوي الاحتياجات الخاصة أو معاقات ذهنياً ولا يملكن حتى مقومات التعبير عن الرفض أو الغضب وتهشيم الكاميرا التي أشار كاتب التقرير إلى أنها «لم تسلم من عبثهن» رغم أنها فضحت أوجاعهن على الملأ دون مراعاة لحقوقهن وكرامتهن كبشر.
تجول معدّ التقرير بينهن دون أدنى اهتمام بمعايير أخلاقيات الصحافة مشيراً إلى عدم قدرتهن على التمييز، ورغم ذلك لم تجد «بي بي سي» غضاضة من انتهاك حقهن وعرض هوياتهن في التقرير. بينما حق المعاق وحق غير المعاق في بريطانيا يلزمان «بي بي سي» في بلدها الأصل، بريطانيا، مهد حقوق الإنسان، بعدم تصوير أي شخص لا يؤخذ رأيه أو لا يوافق خطياً إن كان مدركاً، وعدم تصوير أي شخص لا يملك القدرة على التمييز مهما كان الأمر.
إن «بي بي سي» التي عرضت التقرير تمدّ لسانها في وجه أبناءنا الأقل حظاً لترفع نسبة مشاهدتها، دون اهتمام بتطبيق ذات المعايير الأخلاقية لمهنة الصحافة ونزاهتها على المواطن العربي كما تفعل مع مواطنيها وداخل إطار حدود دولتها المعنية بحقوق البشر لأنها تعلم تماماً أن المدرسة التي جرى فيها التصوير لا تملك حق أن تنوب عن هؤلاء الفتيات بمنح تصاريح للتصوير.
المعاق والأطفال بشكل خاص في بريطانيا محاطون بهالة من الحقوق والحماية التي لا تجرؤ «بي بي سي» على اختراقها خشية المقاضاة القانونية، ولا داعي لأن أشير إلى القصص التي عرضت على مجلس أخلاقيات مهنة الصحافة، أو التي تمت مقاضاتها لمؤسسات إعلامية صورت طفلاً دون إذن. بينما في الأردن، حيث تشعر «بي بي سي» باستعلاءها على المواطن العربي، لا تكترث بتأثير التصوير على هؤلاء الفتيات اللواتي لا يملكن من أمرهن شيئاً لذلك تمنح نفسها الحق بانتهاك حقوقهن كما هو ديدنها في تقاريرها عن الفقراء في دول أفريقيا وآسيا.
إن كزدرة الصحفي «ناصر شديد» الذي أعدّ التقرير بين الفتيات، وعرض التقرير دون حتى محاولة لطمس معالم وجوههن تقنياً كما تفعل بعض المحطات الفضائية لحماية الضعفاء، هو انتهاك أكبر لحقوقهن من مجرد البحث عن فتوى إن كان يجوز أو لا يجوز إيقاف دوراتهن الشهرية دون الرجوع إليهن لأنهن لا يملكن هبة التمييز. كما أن عملية مناقشة مخاوف أولياء أمورهن من مغبة وقوعهن فرائساً لعمليات الاغتصاب مرفقاً بالتقرير الذي كشف وجوههن، هو بمثابة تعريضهن لخطر إضافي بعد أن تمت تحديد هوياتهن، وهذا الأمر بمثابة لفت نظر لمن تسوّل له نفسه، بأنه يمكن أن يعتدي على مثل هؤلاء الفتيات الضعيفات اللواتي لا يملكن حولاً ولا قوة.
لقد شاركت بحملات من أجل حقوق ذوي الإعاقات والاحتياجات الخاصة التي تنتهك إعلامياً منذ سنوات طويلة. وأرفع صوتي هنا مرة أخرى وأطالب «بي بي سي» بتوضيح الإجراءات التي قامت بها لتتمكن من تصوير هؤلاء الفتيات. وأتمنى أن تكشف لنا إن كانت قد حصلت على توقيعات تجيز لها تصوير هؤلاء الفتيات جميعاً، وإن كانت بالفعل قد حصلت على إذن تصوير، من الذي منحها هذا الحق نيابة عن فتيات لا يملكن من أمرهن شيئاً، خصوصاً وأن التقرير ما زال مثبتاً على موقعها حيث يتم تدويره مراراً وتكراراً دون مراعاة لحقوق هؤلاء الفتيات عن هذا الخرق المخزي لحقوق فئة ضعيفة.
إن كانت «بي بي سي» قد نسيت المعايير الأخلاقية لمهنة الصحافة، والملزمة قانونياً والمتعلقة بالذات بالأطفال وبذوي الإعاقات، عليها مراجعة تلك البنود المتوفرة للجميع على موقع «لجنة شكاوي الصحافة» أو «جمعية المحررين» خصوصاً البنود 3، 4، 6، 8، و 12 والتي تؤكد جميعاً على احترام حقوق هذه الفئة. على «بي بي سي» أن تسائل نفسها، هل كانت لتتخذ ذات هذه الإجراءات في إعداد مثل هذا التقرير لو كانت تتحدث عن فتيات معاقات في بريطانيا.