مقدمة
تواصل الكاتبة الدكتورة سنا الحاج في هذه المساحة نشر الفصل الثالث من ذكرياتها (ذكريات طفلة ذات إعاقة) والذي تضمن ثلاثة عناوين هي: شجرة برية (نشرت في عدد المنال 286 لشهر يونيو 2014)، وننشر في هذا العدد القسم الثاني من الفصل الثالث ويحمل عنوان الحلم، على أن ننشر في العدد الذي يليه بإذن الله القسم الثالث والأخير من الفصل الثالث وعنوانه: لقاء.
الحلم
في تلك الليلة من ليالي كانون الباردة (ديسمبر ويناير) وفي أكثر الأوقات هدوءاً وصمتاً في البيت تخلى الجهاز اللاسلكي القابع قرب سريري عن صمته وأخرج صوتاً، التفتُّ الى مصدر الصوت فزعة فالجهاز كان مفتوحاً على موجة لم أقصد تحديدها، وما كنت قد استخدمته طيلة أيام النقاهة السابقة. لم أفزع من الصوت بحد ذاته لأنه كان صوتاً لطيفاً ملفتاً، وبرغم قساوة تلك الليالي الباردة والمظلمة استطاع هذا الصوت أن يجعل الدفء يسري في عظامي الهشة.
من تلك الموجة الثابتة التي لم أحركها قط قال:
ـ (يابا يابا بريك في حدا هون؟)،..
… جفلت لأنه خيّل إلي كأن شخصاً ما خرج من ذاك الجهاز وهزّني كي التفت إليه، فلم أجب، عاد النداء السابق ثانية، فتأهبت للرد كأني سألقي خطاباً مرتجلاً عبر الهواء مباشرة.
أجبت بصوت خفيض بالكاد يُسمع:
ـ أنا هنا
ـ أنا دانيال
ـ وأنا سارة،..
قلت أنا سارة لكني من شدة ارتباكي لم أنتبه أن اضغط على الزر الخاص والواجب ضغطه أثناء الكلام، فمر وقت من الصمت انتبهت عندها أن صوتي لم يصله، فضغطت على الزر المطلوب وأعدت العبارة:
ـ أنا سارة.
ـ ما سبب هذا البطء في الرد، إن كنت مزعجاً سأنصرف.
ـ بصراحة هذه أول مرة استخدم فيها هذا الجهاز وقد تكون الأخيرة.
ضحك كثيراً ولم أفهم السبب، تابعنا حديثنا في مواضيع شتى ومتفرقة، منها طريقة استخدام هذا الجهاز وكيفية التنقل من موجة إلى أخرى، وهي ككل وسيلة وآلة تخضع لأخلاق الأفراد أنفسهم فمنهم المسيء ومنهم الخلوق. وفي لغة اليوم نستطيع أن نسمي تلك المحادثات بالدردشة على مواقع التواصل الإجتماعي، تحاشيت قدر المستطاع أن أجيب عن أسئلة شخصية وهو لم يسأل فبقيت أحاديثنا عامة، وإذا بنا قبل طلوع الفجر بدقائق ننتبه لمرور الوقت، ودعته بسرعة وأقفلت الجهاز دون أن نتفق على موعد جديد.
في صباح اليوم التالي ذهبت إلى العمل، وفي المساء لم أجرؤ على فتح ذاك الجهاز خاصة عندما تذكرت كيف مرّ الوقت سريعاً في الليلة السابقة حتى الفجر، فخفت التورط والإدمان على هذا الدواء أم الداء لا أدري!! لقد استطاع ان يترك أثراً طيباً في نفسي منذ الليلة الأولى عبر كمية من الضحك والمرح العزيز والنادر، كان خوفي شديداً وأنا التي لم أكن قد خضت بعد في مثل هذه الدردشات في الحياة العادية، خفت من الجهاز ومن التعلق به أو بشخص قد استطاع أن ينتقل بي من عالم الضجر إلى عالم مليء بالتسلية بليلة واحدة، وأشفقت على نفسي من الدخول في هذا العالم الافتراضي المشبع بالوهم، حتى وإن كان هذا حلماً فأنا على يقين أنه لن يتحقق على أرض الواقع، لذا فالأفضل لي إعادة هذا الجهاز غداً إلى أصحابه.
وفي اليوم التالي تناسيت جهاز اللاسلكي في البيت ولم آخذه معي إلى العمل، وعندما حلّ المساء نظرت إلى الجهاز الذي ما زال قرب السرير وتركته مقفلاً، كنت مترددة وخائفة من سماع ذاك الصوت من جديد، وبدلاً من فتح الجهاز أدرت آلة التسجيل على أغنية رباعيات الخيام لأم كلثوم، وما أن صدح صوتها بقولها:
حتى هدأت وتسمرت جالسة في مكاني وانتظرت أن تكمل وكأني لم أسمع بتلك الأغنية من قبل، وأنا أعلم أني سمعتها عشرات المرات، ولكنها لم تكن تعنيني من قبل، فتابعت وشدني أكثر قول الشاعر الكبير عمر الخيام في أبياته التي غنتها أم كلثوم فقالت:
لم أصدق شدة تأثري بها، كلمات أذهلتني وأخذت بي كأنها تخاطبني بل تأمرني أن أقوم بعمل ما، وأنا ما زلت مسمرة بمكاني أحدق في سقف غرفتي، فلم أعي إلا ويدي تتحرك وكأنها مفصولة عني تبحث عن زر الجهاز وتشغله على تلك الموجة الثابتة ودون المبادرة بالكلام أو المناداة، وبقيت لدقائق شاردة استعيد كلمات الشاعر عمر الخيام، وإذ بالصوت عبر الجهاز مجدداً يناديني، فانتفضت ثم أخذت نفساً عميقاً وأجبته بكلمة واحدة ظهر منها النصف ومن شدة ارتباكي ابتلعت النصف الآخر:
ـ نعـ….م
ـ هذه أنتِ أم أنا مخطئ؟
ـ هذه أنا
ـ حسناً ما بكِ اختفى صوتك؟ لقد انتظرتك البارحة.
ـ لكننا لم نتواعد
ـ لكني انتظرتكِ
بصوت مرتجف قلت له:
ـ بصراحة كنت قد قررت البارحة إعادة هذا الجهاز إلى أصحابه، ولم أكن أنوي التحدث إليك مجدداً.
ـ لماذا؟ هل سببت لك الإزعاج أو الإحراج، أم أسأت إليك بشيء؟
ـ لا أبداً أنت شاب مهذب وخفيف الظل، لكني بصراحة لا أريد أن أدمن على هكذا سهرات ومحادثات مهما كانت مفيدة، فالإدمان على شيء غير حقيقي أمر سيء.
حاول طمأنتي مؤكداً لي أن الأمر ليس بهذا السوء الذي أراه قائلاً:
ـ لكن الأمر ليس بهذا التعقيد وهو سهل وبسيط، ولأريحك أكثر سأكون صريحاً معك، فأنا متزوج ولي أولاد ولا داعي للخوف مني، وها نحن واعين وراشدين، كما وأعدك بأني لن أتحرى لمعرفة اسمك الحقيقي ولن أسعى إلى معرفتك شخصياً، وبمعنى آخر لن أطلب منك لقاءً خارج هذا الجهاز. ولكن ماذا تعنين بقولك ستعيدين الجهاز إلى أصحابه، ومن هم أصحابه؟
حاولت قدر الإمكان إخفاء اضطرابي لمعرفتي بأنه متزوج وله أولاد، وأكملت حديثي بشكل طبيعي وكأنه فعلا قد أراحني بكلامه، فأخبرته أن هذا الجهاز لزميلي في العمل كان قد أعارني إياه للتواصل معهم.
وبتلقائية تامة اختلقت له كذبة، فتابعت حديثي لأخبره بشأن العملية الجراحية التي كنت قد اجريتها فقلت:
ـ لقد خرجت منذ أيام من المستشفى بسبب نزع شظية كانت عالقة في ظهري، جرّاء إصابتي بعدد من الشظايا أيام الحرب وآن الأوان لاستئصالها.
اخترعت هذه الكذبة حتى لا أخبره عن حقيقة إصابتي بشلل الأطفال، لا أدري لماذا فعلت هذا، ربما لزيادة التشويق او لعلني راهنت على كسب قلبه طالما لم أكن أنوي لقاءه. وفي كل الأحوال تأسف هو عند سماعه عن وضعي الصحي هذا وتعاطف معي ثم تعاهدنا على ألا يسأل أحدنا عن اسم الآخر، وعلى عدم طلب اللقاء مستقبلاً.
مرت الليالي سريعاً تحدثنا في موضوعات كثيرة وكان القسم الأكبر منها في البداية أنه درّبني على كيفية استخدام الحاسوب الآلي، في كل ليلة يعطيني درساً نظرياً وفي الصباح أذهب إلى العمل وأحاول تطبيقه عملياً على جهاز الكمبيوتر الحديث هناك، ثم أعود مساءاً أحمل إليه كماً من الاسئلة وهو يجيبني، ثم نكمل سهرتنا بما يقربنا أكثر فأكثر من بعضنا.
مرّت الشهور الأربعة الأولى مترافقة مع إزدياد كمية الدردشة ونوعيتها ومدتها مما زاد الانجذاب والتقارب والسهر حتى الصباح، وبالطبع ازداد معها الشعور بالخطر المرافق للشوق، عندها قررت الاعتراف له بإعاقتي الجسدية دون تبرير لكذبتي تلك، واجهت صعوبة في قول الحقيقة، صعوبة نابعة من كوني سأخسره ولكنني تجاوزتها احتراماً لنفسي فشددت من عزيمتي وأخبرته بأني مصابة بشلل الأطفال منذ صغري. وقد اختلقت له أمر العملية الجراحية التي كنت قد أجريتها بداية معرفتي به، وقبل أن يعلق تابعت في سرد ووصف بنياني الجسدي الضعيف الذي خضع قبل تاريخ بدء كلامي معه إلى تسع عمليات جراحية حتى بات مادة للاختبارات، وساحة للندوب على شكل خرائط هندسية، وأضفت قائلة:
ـ هذا بالاضافة إلى أنني أمشي منذ كان عمري ثلاث سنوات داخل ما يشبه القفص من الحديد في قدمي بالإضافة إلى العكازين. وسأترك لك التعليق إلى الغد إن أردت ذلك وأنا آسفة لقول هذا الآن، ولكني شعرت بأن هذا هو الوقت المناسب لقول الحقيقة وأصبح من حقك أن تعرف.
ساد الصمت بعد أن تركت له التعليق والكلام، كنت أترقب ردة فعله بعد هذا الاعتراف، وإذ به يأخذ نفساً عميقاً مسموعاً، ويقول:
ـ لن أقول لك أني لم أصدقك حين قلتِ أنك أجريتِ عملية جراحية لنزع شظية من ظهرك فأنا لست بهذا المستوى من الذكاء.. وفي الوقت نفسه أنت بارعة في خلق وسرد الحكايات حتى بدت حقيقية. على كل حال هذا لن يغير شيئاً، فأنا حتى الآن لم أتعرف إلا على عقلك وروحك ولم أر جسدك بعد، اللهم إلا إن كان موضوع شلل الأطفال هذا خدعة أخرى، لذا أرجو أن تقولي الحقيقة مرة واحدة وأخيرة.
أردت عندها أن أنهي المحادثة فوراً لشدة اضطرابي وقلت:
ـ هذه هي الحقيقة فعلاً، واعذرني الآن الوقت قد تأخر، نتحدث في الغد.
انتظرت الغد بكثير من الاضطراب والتوتر والأسئلة تضج في رأسي: ما الذي سيقوله؟ وهل حقاً سيعود للحديث معي؟ طبعاً سيعود لأنه سيشفق على حالتي لكنه سيتغير بالتأكيد؟ ثم تذكرت الكثير من الحكايات التي قرأتها وسمعت بها بخصوص علاقات الحب لمثل حالتنا، آملة أن أكون قد تركت عنده أثراً خلال تلك المكالمات،.. أثراً يستبقيه وكان الأمل ضعيفاً مهما حاولت إسناده بالاحتمالات.
وجاء الغد، يدي ترتجف فوق مقبض جهاز اللاسلكي، ناديته بحسب اتفاقنا فاستقبلني بضحكة أو بقهقهة صاخبة جعلتني أضحك بدوري وقلت بنبرة جدية:
ـ بالله عليك ما الذي جعلك تضحك هكذا؟ هل وضعي يضحك؟ ما بك؟ وبماذا تفكر؟ وما تريد قوله؟ فقل ما شئت دون تردد أو تحفظ فأنا معتادة ومستعدة لاستقبال جميع أنواع العبارات.
ـ صراحة أنا لا أجيد صوغ عبارات المديح والمجاملة، ولن أخوض كذلك بحديث تقليدي يكرره الناس في مثل هذه الاوضاع، لذلك اسمحي لي بتخطي هذا الموضوع بقول جملة واحدة مفادها أنني أخاطبك كإنسانة عاقلة وواعية وثقتك بنفسك واضحة ولست بحاجة إلى أكثر من ذلك.
ـ هذا يعني أنك لن تشفق عليّ وأنا المعوقة المصابة بشلل يجعلني أمشي على عكازين؟؟!!!!
قال مستغرباً:
ـ ماذا تقولين؟ وهل فهمتِ من كلامي أنني أشفق عليكِ، أم أنك تسخرين؟
ـ لا أبداً لا تفهمني خطأ، أنا حقاً لا أسخر من وضعي لأنه لا يشكل لي أي أزمة، بالرغم من هذا قد يشكل أزمة لكثيرين، وقد لا يشكل أزمة لقلة قليلة من الناس الذين أتعرف عليهم، وصدقاً أقول لك بأني لن أثير شفقتك حتى لو رأيتني شخصياً، مثالاً على ذلك فقد قابلت مرة فتاة وقالت لي هذا الكلام: (أنتِ أول فتاة معوقة أراها ولا تثير شفقتي).
تخطينا هذه الحالة وانتقلنا إلى موضوعات أخرى، تعرفنا إلى بعض أكثر حتى اكتملت دورة تقاربنا على مدار ستة أشهر من بداية محادثاتنا مع حفاظنا على العهد الذي كنا قد قطعناه لبعضنا بأن لا لقاء سيتم بيننا، كان كلانا متلهفاً للقاء دون أن يتجرأ أحدنا ويطلبه من الآخر، فتزاحمت الأشواق وتعمقت العلاقة أكثر فأكثر، وبدأ هو يلمح لي أثناء كلامه عن رغبته باللقاء دون التصريح المباشر، ومن ناحيتي لم أكن أمانع، بل انتظرت منه المبادرة مع التشجيع من قبلي بطريقة الإيحاء غير المباشر أيضاً.
وأخيراً أبدى رغبته باللقاء، فوافقت مباشرة متجنبة إحراجه وتوتره.
((يتبع في العدد القادم القسم الثالث… اللقاء))
الاسم : سنا أحمد الحاج
مواليد بيروت 4 نيسان / أبريل 1965
الشهادة العلمية:
دكتوراه في الفلسفة ومقارنة الاديان ـ الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية (لندن).
العمل والنشاطات:
- ـ رئيسة دائرة الدراسات والبحوث في وزارة الاعلام اللبنانية – مديرية الدراسات والمنشورات.
- ـ عضو تحرير الصفحة الالكترونية لوزارة الاعلام.
- ـ عضو هيئة تحرير مجلة "دراسات لبنانية".
- ـ ممثل وزارة الاعلام في لجنة وضع خطة توجيهية لتسهيل ذوي الاحتياجات الخاصة في العمليات الانتخابية الصادرة عن مجلس الوزراء اللبناني.
- ـ مشاركة في مجلة "تحالف الحضارات" الصادرة عن "البيت اللبناني – الروسي".
- ـ مشاركة في مجلة «المنال» ـ مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية.
- ـ مشاركة في مجلة طبيب الجمال.
- ـ مشاركة في مجلة أحمد ـ كاتبة قصص اطفال
- ـ كاتبة للعديد من المقالات والملفات والمقابلات والدراسات في عدد من الصحف اللبنانية.
- ـ مؤلفة كتاب بعنوان «ماهية الانسان وعوامل تكامله في الفلسفة والدين» الصادر عن دار فكر للأبحاث والنشر.
- ـ متعاملة سابقاً مع مديرية السينما والمسرح والمعارض اللبنانية.
- ـ موظفة سابقاً في وزارة الثقافة اللبنانية.
- ـ العمل سابقاً في مشروع إعادة تأهيل المكتبة الوطنية في لبنان ـ عضو لجنة إعداد دليل تصنيف المكتبة.
- ـ المشاركة في العديد من المؤتمرات والندوات والمعارض وورش العمل