كثيراً ما يحتار الأهل عندما يتأخر الطفل في اكتساب اللغة والكلام، بعضهم يبدأ في رحلة طويلة في البحث عن الأسباب والعلاج عند الأطباء والمختصين في علاج مشاكل اللغة والكلام، والبعض الآخر يفضل اللجوء إلى طرق غير صحيحة مثل المشعوذين والوصفات الشعبية، بينما يفضل البعض الآخر الانتظار وإهمال المشكلة حتى يكبر الطفل وذلك بناء على نصائح غالباً ما تكون خاطئة.
في الحقيقة، التأخر اللغوي عند الأطفال له مظاهر وأشكال عديدة، إلا أننا في هذه المقالة سوف نتناول أهم أسباب تأخر اكتساب اللغة فقط.
قبل الحديث عن أسباب التأخر اللغوي لابد أن نذكر بأن مشاكل اللغة عند الأطفال سواء كانت تأخراً في اكتساب اللغة أو اختلالاً في اكتسابها قد يكون ثانوياً أو أساسياً، بمعنى أن تكون مشكلة اللغة ثانوية لمشكلة أخرى تطورية لدى الطفل أو أن تكون أساسية أي أن الطفل لا توجد لديه مشاكل تطورية أخرى ولديه مشكلة لغوية فقط.
وفيما يلي بعض أهم أسباب التأخر في اكتساب وتطور اللغة:
-
ضعف في القدرات العقلية (التأخر أو الإعاقة الذهنية)
تعتبر الإعاقة الذهنية أحد أهم الأسباب التي تؤخر أو تعيق اكتساب وتطور اللغة عند الطفل، وبدون إعطاء نسبة مئوية أستطيع القول إن نسبة كبيرة من الأطفال المراجعين لمراكز اللغة والنطق أو مراكز التشخيص المبكر تعود أسباب المشكلات اللغوية لديهم إلى الإعاقة الذهنية.
والأمر الملاحظ هنا أنه لدى الطفل الذي يعاني من مشكلات لغوية إعاقة ذهنية بسيطة غالباً، إلا أن التأخر اللغوي يكون متوسطاً، أو يكون لديه إعاقة ذهنية متوسطة وتأخر لغوي شديد، وتكون المشكلة أصعب عندما تصحب الإعاقة الذهنية مشاكل تطورية أو حسية أو بيئية أخرى.
-
مشاكل السمع وتأثيرها على اكتساب وتطور اللغة
معروف للجميع أن السمع عنصر أساسي ومهم في اكتساب اللغة، وأن فقدان أو ضعف السمع في الأشهر أو السنوات الأولى من عمر الطفل يؤثر وبشكل مباشر في اكتساب وتطور اللغة.
إن مشكلة اللغة هنا تعتمد على نوع ونسبة فقدان أو ضعف السمع وكذلك على سن الطفل وقت حدوث مشكلة السمع، فهناك اختلاف واضح من ناحية اكتساب اللغة بين الطفل المولود بمشكلة السمع وبين الطفل الذي حدثت له مشكلة السمع بعد السنوات الأولى من حياته، ويعتمد الأمر كذلك على التدخل المبكر الذي يتلقاه الطفل.
-
أسباب عصبية Neurological
معروف علمياً أنه توجد مراكز في الدماغ مسؤولة عن انتاج وفهم اللغة لعل أهمها مركز بروكا Broca وهو مسؤول عن انتاج اللغة، ومركز ويرنيك Wernick وهو مسؤول عن فهم اللغة، بالإضافة إلى مراكز عصبية أخرى منها ما هو للإدراك البصري ومراكز للادراك السمعي وكذلك مراكز عصبية أخرى في الجهاز العصبي ككل، وأية إصابات تحدث في هذه المراكز تسبب مشاكل في اللغة وتطورها، بالإضافة إلى المشاكل العصبية والتطورية الأخرى، مع الاعتراف بأنه في حالات كثيرة يكون من الصعب ارجاع السبب في المشاكل اللغوية إلى إصابة هذه المراكز، إلا أنه مع الفحوصات الطبية واللغوية وتاريخ الحالة وعلامات معينة في اللغة وخبرة المعالج يمكن تحديد ما إذا كان السبب عصبياً أم لا.
4 ـ الأسباب النفسية ـ العصبية:
هنا سوف نتناول حالتين هما حالة التوحد Autism وحالة النشاط المفرط مع قلة التركيز أي ADHD و ADD.
التوحد المبكر من أهم علامات التوحد المبكر (بالإضافة إلى علامات أخرى) هو التطور غير الطبيعي للغة، النسبة الكبيرة من الأطفال من ذوي التوحد يكون لديهم غياب كامل للغة أو حتى تراجع تدريجي في قدرات لغوية اكتسبت في الماضي، ونسبة أخرى تكون لديهم بعض الكلمات والأصوات البسيطة جداً، وحتى في حالة اكتساب الأطفال التوحديين جزءاً من اللغة تكون لديهم اللغة من نوع خاص، ويغلب على كلامهم حالة الـ Echolalia وهي ترديد ما يسمعه الطفل دون التفكير أو التعامل مع الكلمات التي يسمعها.
أما حالة ADD / ADHD (Attention deficit hyperactivity disorder) و Attention deficit disorder أي إصابة الطفل بالنشاط المفرط والحركة الزائدة مع قلة الانتباه والتركيز فهو سبب مهم في التأخر في اكتساب وتطور اللغة، مع أن العلاقة بين حالة النشاط المفرط واكتساب اللغة غير معروفة بدقة حتى الآن، إلا أنه يمكننا القول إن اكتساب اللغة وتطورها يحتاج إلى انتباه وتركيز جيدين من قبل الطفل، ونجد أن الطفل المصاب بهذه الحالة كثير الحركة وعديم الانتباه وينتقل من مؤثر حسي إلى مؤثر آخر بشكل عشوائي، وهذا بحد ذاته يعيق عملية اكتساب اللغة. والاختلاف بين حالة ADD و حالة ADHD هو أن الطفل في الحالة الأولى يكون لديه عدم انتباه وتركيز ولكن بدون وجود حركة زائدة أي نشاط مفرط، أما في الحالة الثانية فيكون لديه عدم انتباه وتركيز مع وجود نشاط مفرط.
-
البيئة والعوامل المحيطة بالطفل وعلاقتها بتطور اللغة
يعرف جميع العاملين في مجال الطفولة المبكرة والتأهيل مدى تأثير البيئة ودورها المهم في المساعدة على اكتساب وتطور اللغة وهذا ما نسميه البيئة المحفزة أو المنشطة أي البيئة التي تهتم بتعليم الطفل والحديث معه والموفرة له حاجته من الألعاب وكتب الأطفال.. إلخ كلها عوامل تساعد في تطور اللغة.
أما البيئة السلبية بالنسبة لتطور اللغة فتأخذ شكلين: الأول هو ما نطلق عليه التخلف البيئي أو الفقر البيئي، في مثل هذه البيئة غالباً ما يعيش الطفل مهملاً منعزلاً مع عدم اعتناء الأهل به وانشغالهم عنه وعدم تلبية حاجته للتعلم واللعب.. في مثل هذه البيئة من المحتمل جداً أن يتأخر الطفل في اكتساب اللغة أو أن تكون لديه لغة فقيرة في محتواها.
الشكل الثاني الذي تأخذه البيئة المحيطة بالطفل هو كثرة الدلال والحماية الزائدة والتي في بعض الأحيان تؤخر تطور اللغة.
في أحد المراكز المتخصصة بالتدخل المبكر حضرت إحدى الأمهات ومعها طفلها الوحيد البالغ من العمر ثلاث سنوات وثلاث شهور وهو يعاني من تأخر في اكتساب اللغة، وأثناء الجلسة الأولى التي يتم خلالها أخذ تاريخ الحالة وملاحظة الطفل أثناء لعبه، لاحظت بأن الطفل ووالدته يتفاهمان بواسطة الإشارة وتعابير الوجه دون أن يكون لدى الطفل مشكلة في السمع أو مشاكل تطورية أخرى، وكان الطفل يكتفي بعمل علامة معينة على وجهه للدلالة على حاجته لشيء معين، وكانت الأم تفهم عليه دون أي تعليق كلامي أو محاولة تبديل تعابير الوجه هذه بكلمات أو جمل، أي دون عمل Verbal Input وعندما سألت الأم عن طريقة التفاهم هذه أجابت بأن الطفل يبكي إذا لم أفهم تعابير وجهه وإشارة إصبعه، وبعد وضع الطفل في روضة أطفال عادية وتعريضه لمؤثرات لغوية وجلسات إرشادية للأم بدأ الطفل في اكتساب اللغة العادية وبشكل سريع مما يدل على عدم وجود مشكلة عضوية لدى الطفل تمنعه من اكتساب اللغة بشكل صحيح.
-
هناك أسباب أخرى تعيق اكتساب اللغة
إلا أن معلوماتنا عن هذه الأسباب غير كاملة، منها على سبيل المثال التأخر اللغوي عند الأطفال التوائم، في إحدى المرات شاهدت توأمين عمرهما خمس سنوات ولديهما تأخر لغوي، وعند الملاحظة وجدت أنهما اخترعا لغة خاصة بهما يتفاهمان بها مع بعضهما تختلف بأصواتها ومفرداتها عن اللغة المحكية في البيت ولا يستطيع أحد آخر فهم هذه اللغة.