هل كان صلى الله عليه وسلم عنيفاً في دعوته مع أصحابه؟ هل سخر يوماً منهم؟ هل كان لعاناً أو شتاماً؟ حاشا وكلا.
كان النبي صلى الله عليه وسلم أقرب من الأهل ومن الزوج لأصحابه كان يقول عنهم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، علماء كادوا أن يصبحوا أنبياء. وخاطبه ربه فقال: ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، وقال: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
وكلامنا في هذا المقام أدنى من مقام المتكلم عنه فهو حبيب الله محمد صاحب الخلق الرفيع الذي خاطبه ربه فقال: وإنك لعلى خلق عظيم. قال القاضى عياض: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، لقد فزع أهل المدينة ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعا، قد سبقهم إليه واستبرأ الخبر على فرس لأبى طلحة عري والسيف فى عنقه، وهو يقول لن تراعوا.
وقال علي رضى الله عنه: إنا كنا إذا حمي البأس واحمرت الحدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا. وقد قالت له خديجة رضي الله عنها: (إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق).
وحمل إليه سبعون ألف درهم، فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما رد سائلاً، حتى فرغ منها وجاءه رجل فسأله فقال له: ما عندي شيء، ولكن اتبع علياً، فإذا جاءنا شيء قضيناه، فقال عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه! فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً، فتبسم النبي، وعرف البشر فى وجهه، وقال: بهذا أُمرت.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤلف أصحابه ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم. ويحذر الناس ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خلقه. يتفقد أصحابه ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه. من جالسه، أو قاربه لحاجه صابره، حتى يكون هو المنصرف عنه. ومن سأله حاجه لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول. قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء.
وكان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه قاصده.
وعن عائشة رضى الله عنها: ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله، ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: لبيك. وقال جرير بن عبد الله رضى الله عنه: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم. وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويجاريهم، ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره. ويجيب دعوة العبد والأمه والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المتعذر.
قال أنس: ما ألتقم أحد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر، وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة. لم ير قط ماداً رجليه بين أصحابه فيضيق بهما على أحد، يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى. ويكني أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه، حتى يتجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام.
وعن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتى بهدية قال: اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحب خديجة.
وكان يصل ذوي رحمه، من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم. وعن أبي قتادة: لما جاء وفد النجاشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمهم، فقال له أصحابه: نكفيك، فقال: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنى أحب أن أكافئهم.
وعن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصا، فقمنا له فقال: لا تقوموا كما يقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضا. وقال: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم، حيثما انتهى به المجلس جلس.
وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رحل رث عليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم، فقال: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة.
ولما فتحت عليه مكة ودخلها بجيوش المسلمين، طأطأ رأسه على راحلته حتى كاد يمس قادمته، تواضعا لله تعالى.
وكان كثير السكوت لا يتكلم في غير الحاجة، ويعرض عمن تكلم بغير جميل.
وكان ضحكه تبسما، وكلامه فصلا، لا فضول فيه ولا تقصير.
وكان ضحك أصحابه عنده التبسم، توقيراً له واقتداء به.
مجلسه مجلس حلم وخير وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، لا تخدش فيه الحرم.
إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير.
وإذا مشى مشى مجتمعا، يعرف في مشيته أنه غير ضجر ولا كسلان.
قال بن أبي هالة: كان سكوته على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان يتحدث حديثاً، لو عده العاد أحصاه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الطيب والرائحة الحسنة؛ ويستعملها كثيراً.
وقد سيقت له الدنيا بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحها، فأعرض عن زهرتها، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله.