العولمة ظاهرة جديدة أدت إلى إنكماش العالم بسبب التحسن الذي طرأ على وسائل الإتصال بين الناس في مختلف أرجاء العالم. والهوية الوطنية تعني الشعور بالإنتماء إلى أمة ما؛ والأمة على خلاف الدولة لا يمكن تعريفها بإعتبارها بنية حكومية إنما تدل على مجموعة من الناس يربطها شعور بالتضامن بين أفرادها. أما عملية التآكل (الإندثار) Erosion فتشير إلى الإضمحلال التدريجي لشيء ما.
إننا حين نقرن الهوية الوطنية بالعولمة فإن الأمر لا يتعلق عندئذ بالإندثار إنما بالطبيعة التحولية. وهناك اعتراض على مثل هذا الطرح للأسباب الآتي ذكرها:
- تعمل العولمة في الواقع على تقوية الهوية الوطنية من خلال السياحة على سبيل المثال فبسبب الإنكماش الذي شهده عالم اليوم بدأت رغبة الناس تزداد لزيارة الأماكن غير المألوفة سعيا وراء رؤى جديدة. وهذا الأمر ينطبق على وجه الخصوص على بلدان مثل مصر وكمبوديا فالمواطنون في هاذين البلدين يودون العمل أدلاء سياحيين لتقديم العون للسياح الأجانب أثناء زيارتهم المواقع الأثرية التي تميز حضارة البلدين مثل الأهرام والمعابد التي تحيط بالأقصر والآثار الموجودة في (سيم ريب) و(فنوم بن) في كمبوديا. ولا بد أن يعي أولئك الأدلاء السياحيون أثناء تجوالهم مع السياح الأجانب غنى تاريخ بلدهم والإزدهار الحضاري الذي شهدته كل من الإمبراطوريتين المصرية والكمبودية. ولا شك أن مثل هذا الفهم سوف يجعلهم يفتخرون بتراثهم وهويتهم وانتمائهم الأصيل. لذا فإن العولمة ربما تؤدي إلى تعميق اعتزازهم بالإنتماء إلى مثل هذه الأمة الأمر الذي يؤدي إلى ترسيخ الهوية الوطنية.
- العولمة تتيح للناس إدراك هويتهم الوطنية ثانية من خلال ظاهرة الهجرة فمع إنطلاق العولمة أصبحت الهجرة من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية ظاهرة شائعة. وفي خضم هذه الحركة تميل بعض الجماعات إلى تطوير شعور جديد بالهوية الوطنية وهي ظاهرة لا يمكن إعتبارها عملية تآكل للهوية الوطنية إنما حصول تحول فيها. فعلى سبيل المثال لا يمكن أن يكون السكان الصينيون المقيمون في سنغافورة قد فقدوا صلاتهم بأسلافهم لأن ما حصل لا يعدو كونه أكثر من عملية تغيير فحسب فالصينيون هناك ما يزالون يتحدثون اللغة الصينية المعروفة بالماندرين Mandarin بطلاقة غير أن طريقة تحدثهم بهذه اللغة تختلف كثيرا عن لغة الصينيين الذين يعيشون في تايوان أو شنغهاي. ولأن اللغة هي التي تحدد الثقافة فإن حفاظ أولئك المتحدثين على لغتهم هو السبب الرئيسي لمحافظتهم على هويتهم الوطنية. عليه فإن هجرة الصينيين إلى سنغافورة نتيجة العولمة قد أدى إلى إدراكهم لهويتهم الوطنية السابقة ثانية واكتسابهم هوية جديدة.
ويذهب مؤيدو العولمة بصفتها تمثل عامل تآكل إلى أن الناس ربما يتغاضون عن هويتهم الوطنية بسبب توجههم المطلق نحو الكسب المالي مثلما حصل مع ثقافة شعب الماوري Maori في نيوزيلندة فقد ترك أولئك القوم قبائلهم وتوجهوا إلى مدينة روتوروا Rotorua بهدف تأدية رقصاتهم القبلية وإظهار ثقافتهم إلى السياح. لقد أدركت تلك الجماعة المنافع المالية الكبيرة التي تعود عليهم من السياحة مما دفعهم إلى التخلي عن أعرافهم التقليدية وحفزهم للمغامرة في مثل هذه الصناعة المربحة وبذلك إنسلخوا عن هويتهم الوطنية. مع ذلك يمكن إعتبار مثل هذا التوجه مثالاً على الهوية الوطنية المعدلة فهؤلاء الناس لم يعودوا يعتبرون أنفسهم جزءا من الشعب الماوري إنما أصبحوا جزءا من الشعب النيوزيلندي. وتأسيساً على ذلك يمكن للعولمة أن تعدل الهوية الوطنية أكثر من العمل على تفتيتها.
في الختام لا يمكن لأي إنسان أن يحيا في جزيرة مقفرة فنحن نتكل على بعضنا البعض ونسعى لإيجاد موطىء قدم لنا في هذا العالم. وبهدف ضمان مثل هذه العلاقات الإنسانية يتعين علينا أن نجد إحساسا بالإنتماء إلى جماعة محددة مشفوعا بالمقبولية. ولأن الجماعة القوية تعتبر بمثابة أمة فإنه من الضروري أيضا أن تتوفر الهوية الوطنية لكل الناس بصرف النظر عن الظروف. إن العولمة وفق ما ذكر آنفاً لا يمكن أن تهشم الهوية الوطنية ما دامت تعتبر وسيلة لتقويتها أو تحويلها.
المصدر:
http://lutheryap.wordpress.com/2011/07/09/globalization-erodes-national-identity/
عراقي الجنسية
1951مواليد عام
حاصل على ماجستير لغة انكليزية
أستاذ مساعد في قسم الترجمة ـ كلية الآداب ـ جامعة البصرة ـ جمهورية العراق
المنصب الحالي مدير مركز اللغات الحية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة
الخبرة المهنية:
تدريس اللغة الانجليزية، لغة وأدبا وترجمة، في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة منذ عام 1981 ومن ثم التدريس بكليتي التربية والآداب بجامعة الفاتح في ليبيا منذ عام 1998 وبعدها بكليتي اللغات الأجنبية والترجمة والإعلام بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا بدولة الإمارات العربية المتحدة اعتبارا من عام 2004. ويشمل التدريس الدراسات الأولية (البكالوريوس) والدراسات العليا (الماجستير) حيث أشرفت على عدة طلبة ماجستير فيما كنت أحد أعضاء لجان المناقشة لطلبة آخرين ، كما نشرت العديد من البحوث في مجلات علمية محكّمة.
الخبرة العملية:
العمل في ميدان الترجمة حيث نشرت أربعة كتب مترجمة إلى اللغة العربية كما نشرت المئات من المقالات والقطع والنصوص الأدبية المترجمة في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية ومنها مجلة المنال. كما عملت في مجال الصحافة والإعلام والعلاقات العامة وكذلك الترجمة في مراكز البحوث والدراسات في العراق وليبيا ودولة الإمارات العربية المتحدة.