منذ زمن بعيد لا يتذكر مداه أحد من رواد الحديقة العامة، يأتي الفتى ذو القبعة ليجلس في ركن قصيٍّ هادئٍ منها، على إحدى المقاعد النظيفة، لا يصحبه في جلسته غير كتاب وعدّة الرسم الخاصة به.
لا يتذكر أحد أيضاً من هو الفنان الذي لفت انتباهه هذا الفتى ورسمه في لوحة جميلة ومعبرة، كبيرة الحجم، تحيط به الأشجار والأزهار، وضعت لكي تزين مدخل الحديقة، وصارت أشبه بهوية لها، حتى أخذت تعرف بحديقة الفتى ذي القبعة.
الفتى يشعر بالفخر كلما رأى اللوحة الكبيرة في مدخل الحديقة، والتي يظهر فيها واضحاً، بملابسه وقبعته وتفاصيل جلسته وعدة الرسم الخاصة به، كما أنه يسعد عندما يقترب منه بعض الصغار ويسألونه عن تلك اللوحة، وكيف صار جزءاً منها ومن الذي رسمها؟ لكنهم يستغربون عندما يقول لهم إنه لا يعرف الرسام الذي أبدعها.
تدور الأيام وتبلى اللوحة الكبيرة ويتمزق قماشها بفعل الأنواء المختلفة على امتداد فصول السنوات المتعاقبة، فتستبدل بلوحة جديدة لمنظر مختلف لن يكون الفتى جزءاً منه.
استمر الفتى في ارتياد الحديقة، ولم يترك عادته القديمة في القراءة أو الرسم، وفي يوم من الأيام جاء شاب وشابة كانا قد تزوجا مؤخراً، للتنزه في الحديقة، فوقع نظرهما على الفتى، فتحدثا قليلاً بصوت خفيض، ثم توجّها نحوه، وألقيا عليه التحية، واستأذناه بالجلوس إلى جواره، فردّ عليهما بلطف:
ـ مرحباً بكما، نعم، طبعاً، تفضلا واجلسا.
بادر الشاب بالحديث معه:
ـ قبل عدة سنوات كانت هناك لوحة تزين مدخل هذه الحديقة، وكان فيها فتى يرتدي قبعة، كأنه أنت، كان يجلس في مكانك تماماً، هل تعرفه؟
التفت الفتى نحوه، وقال:
ـ كيف عرفت بكل ذلك؟
أجابت الفتاة الشابة بدورها:
ـ لقد كنا نراه هنا عندما كنا صغاراً، نأتي للعب في الحديقة، وهو يجلس هنا لا يشاركنا اللعب أبداً، يقضي وقته بالقراءة أو الرسم، حتى أن الحديقة سميت بالاسم الذي كان يعرف به: حديقة الفتى ذي القبعة.
أكمل الشاب:
ـ كنا نسكن في هذا الحي في طفولتنا، ثم انتقلنا مع عائلتينا إلى أماكن أخرى، وقد عدنا للسكن فيه مجدداً قبل أيام، بعد زواجنا مباشرة، لأننا نحب ذكريات طفولتنا في هذه الأماكن، ونريد لأطفالنا أن تكون نشأتهم الأولى في الأماكن التي أحببناها.
أطرق الفتى قليلاً، ثم قال:
ـ أنا هو الفتى ذو القبعة في تلك اللوحة!
استغرب الشابان من كلامه، وبدت عليهما علامات الذهول، ثم قالا معاً:
ـ أنت؟ ولكن كيف؟
حاول الفتى أن يهدئ من روعهما، فقال:
ـ لا تستغربا، إنه أنا، كنت الفتى ذا القبعة، وما أزال، ولا أدري حتى متى سأبقى كذلك.
قالت الفتاة وهي لا تستطيع تصديق ما يقول:
ـ إذا كان ما تقوله صحيحاً فيجب أن تكون أكبر منا عمراً الآن! فقد كنا أصغر منك عندما كنا نأتي إلى هنا في طفولتنا.
ظهرت إمارات الحزن على وجه الفتى، وهو يقول:
ـ نعم، أنا ذلك الفتى الصغير، رغم أني أسبقكما في عدد السنوات التي عشتها. أنتم تكبرون في حين أبقى أنا على حالتي؛ لأنني أصبت بمرضٍ نادرٍ عندما كنت طفلاً، لا دواء له، وهذا المرض هو الذي يمنع جسمي وشعري من النمو، فتبقى أعضائي كلها ضامرة، ولهذا أبدو صغيراً كالأطفال.
حزن الشابان كثيراً لسماع قصة الفتى الغريبة، لكنهما وعداه أن يكونا صديقين دائمين له، لكي لا يشعر بالوحدة بعد الآن، خصوصاً وأنهما يحبان الرسم والقراءة مثله تماماً. وقبل أن يغادرا قال له الشاب:
ـ سأخبرك بشيء لا تعرفه، ربما سيسرك، أنا أعرف من رسم لوحة الفتى ذي القبعة.
نهض الفتى واقفاً، مسروراً بما سمع، وهو يقول:
ـ هل تقول الحقيقة؟ أتوق لمعرفة من هو؟
تبسم الشاب وأخبره من يكون الرسام:
ـ إنه أبي، فهو رسام قدير، وقد تعاقدت معه إدارة الحديقة في ذلك الحين، لرسم لوحة للواجهة، فرسمك دون أن تعلم، ربما أرادها مفاجأة سعيدة لك.
قال الفتى الذي غمرته الغبطة:
ـ بالفعل، كانت تلك الأيام التي أرى فيها اللوحة من أسعد أيام حياتي، ولكن أين هو والدك الآن؟ هل أستطيع رؤيته؟
أجابه الشاب:
ـ هو يسكن في الشمال الآن، ولكن ستلتقي به حتماً عندما يأتي لزيارتنا في الشهر القادم.
ناقد وكاتب عراقي
درس اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب جامعة البصرة
عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق
أحرز جائزة الشارقة للإبداع العربي بدورتها السابعة عشرة في مجال النقد 2014
شارك في العديد من المؤتمرات والندوات الأدبية والثقافية المتخصصة
صدر له:
تشتعل ولا تضيء، قصص، رأس الخيمة، دار نون للنشر، 2013
شعرية الحدث السردي، نقد، الشارقة، دائرة الثقافة والإعلام، 2014
عصر السرد، نقد، قيد الطبع، 2015