واحدة من مفردات نتائج التحضر في عصرنا.. هو الملل!! فقيل عن عصرنا عصر الكبت، وقيل عن عصرنا، العصر الرائع، عصر العالم الافتراضي، عالم التواصل الخيالي، وكثير من الناس في عصرنا غير متكيفين، وعدم التكيف كما يقول علماء النفس يعني التناقض، والتناقض يعني التمزق، وهذا يعني الحصر، وهو يؤدي إلى الملل ويقول (بيير داكو) إن الإنسان ممزق بين حقيقة ما هو عليه وبين ما يعتقد أنه عليه!! إنه ممزق؟!!
الملل حالة نفسية تنشأ من قيام الفرد بمزاولة نشاط ينقصه الدافع أو من الاستمرار في موقف لا يميل إليه الفرد. وتتميز هذه الحالة بضعف الاهتمام بالنشاط أو الموقف وكراهية استمراره والرغبة في الانصراف عنه (موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، فرج طه وآخرون).
حينما يؤدي الملل إلى حالة الألم، تبدأ الشكوى، ويكون الدافع الأساس وراء بحث الفرد عن مخرج لهذا الحال بين الأهل أو الأصدقاء أو ربما يسعى إلى تخفيف حدة هذا الشعور باستخدام المنبهات أو العقاقير المهدئة.
يكشف لنا الملل وجود القلق لدي الفرد بقوله: أنا متضايق، أنا أختنق، أنا تائه، أنا حزين، أنا لا أعرف ماذا أريد؟ أنا قلق؟ وكما يقول علماء النفس إن القلق هو الأساس الدينامي لأنواع الاضطرابات العصابية (النفسية) الاخرى إلا أنه في حالة فشل الحيل الدفاعية فإن كمية القلق تبقى على السطح وأحياناً يكون القلق هو الظاهرة الرئيسة أو الوحيدة مما يؤدي إلى صورة القلق والملل.
إننا نعيش الملل في تفاصيل حياتنا وخصوصاً إذا كانت البيئة المحيطة بنا بيئة تسبب القلق وعدم الراحة واختلال العلاقات فيكون الإنسان في مهب الريح لا في حاضره فحسب، بل في رؤيته للغد أو للمستقبل. إن الراحة البدنية والنفسية تقود إلى راحة البال وعكسها يقود إلى التعب الجسدي والنفسي ومن ثم الملل الذي يقود إلى القلق، والقلق هي المادة الخام لجميع الاضطرابات. إن الملل يؤدي إلى التوتر، والتوتر إلى الارهاق، والارهاق يسبب الضغوط النفسية الداخلية لدى الفرد.
يسهم التكيف الناجح في التقليل من الملل وتحقيق راحة البال لدى البعض وليس لدى الجميع وهو ما تطرقنا له في بداية هذه المقال وعكسه يكون التمزق النفسي الداخلي.
نحاول جاهدين أن نربط الملل كمدخل نفسي مع الإكتئاب النفسي لأن كليهما يقود الفرد إلى العزلة، والعزلة هي الشعور بالوحدة حتى تصل بالفرد إلى مكانٍ ضيق في الحياة.
يرتبط الملل بالتعب، والتعب إشارة إنذار ضوئية حمراء، والملل كذلك إشارة إنذار أيضاً، وعلى الإنسان الواعي أن يوقف نشاطه أمام هذه الإشارة بصورة تامة وفوراً، ولا يلجأ إلى الراحة والنوم كما هو معتاد في التعب الجسدي، رغم أنهما (الراحة والنوم) حاجتان طبيعيتان تصبحان أكثر ضرورة كلما أمتدت الفترة الزمنية في العمل أو أي نشاط يقوم به الإنسان.
بالرغم من أن النوم ينهي التعب إلا أنه لا ينهي الملل حيث يشعر الإنسان بعد النوم أنه أحسن ولكن هذه الحالة لا تنطبق على حالة الملل، لكنها تتقارب مع حالة الاكتئاب، فالشخص الذي يعاني الاكتئاب يشعر منذ الصباح أنه متعب، وسريع الهيجان، وله مزاج متعكر، وربما يختلق الحجج لأتفه الأسباب، وبديهي أن هذا التصرف أو ما يصدر عنه من سلوك ليس طبيعياً، بيد أنه مهما يكن غير طبيعي فإنه أصبح نمطًا من أنماط الحياة في حياتنا المعاصرة، بحيث أن الراحة واللجوء إلى العالم الإفتراضي بكل أساليبه وعالم النت والأجهزة الإلكترونية لا تفلح في استبعاده حتى ولو كانت طويلة، ربما يزداد الملل بعد ذلك ويأخذ طوراً جديداً في متاهة الأفكار الاكتئابية التي تقود صاحبها إلى نقص الطاقة مع ضعف وتراجع أمام الظروف ويبدي الفرد أيضاً نقصاً واضحاً في الإرادة مع رفض الجهد في التغيير الذاتي مصاحب له احتقار الذات ولوم وعقاب.
إن أعراض الإكتئاب تختلط حتماً مع أعراض الملل، لا بل واحد من الأسباب الرئيسة في الإكتئاب ويقول (داكو): تنخفض الإرادة في الإكتئاب إلى حد كبير، فالمكتئب يقلل من حركاته بهدف الاقتصاد من الحيوية، إنه يشكو الملل والأرق، ويبدو الهزال عليه غالباً، وتضطرب وظائف الهضم.
وفي بلداننا العربية والإسلامية تزداد ظاهرة الملل وينطق العديد من الناس مثل قولهم: مللنا التفجيرات! مللنا فقدان الأمن! مللنا الروتين اليومي في حياتنا! مللنا النفاق والغِيبة والنميمة بين الناس! مللنا حياة الفقر! مللنا ضبابية المستقبل لنا ولأولادنا! مللنا الجري اليومي! متى نرتاح ويستقر الوضع السياسي؟ متى نلمس راحة البال والشعور بالأمان؟ متى يعود الناس إلى إنسانيتهم، وطيبتهم، ولا يأكل الأخ أخيه؟ هذه وغيرها العديد من الأسئلة الاخرى المحيرة في بلداننا العربية والإسلامية يتداولها الناس كل ساعة، لا بل كل يوم: متى نرتاح؟
وفي الجانب الآخر من العالم، العالم المتقدم بكل القدرات التكنولوجية، أيضاً هناك الملل القاتل من روتين الحياة، الملل الذي يؤدي إلى الاكتئاب النفسي والعقلي (الميلانخولي) الذي يدفع صاحبه إلى الانتحار الأكيد والحتمي.
إذن نستنتج أن الملل موجود لدى الملايين التي تعيش في قعر العالم (العالم الثالث) ولدى الملايين في العالم المتقدم، التي تعيش في قمة الرفاهية والأمان والطمأنينة وضمان الحاضر والمستقبل، لا بل الرفاهية المفرطة.. أيضا يعيشون حالة الملل المؤدية للإكتئاب، فالأمر سيان بينهما.
العمل الاكاديمي:
- أستاذ جامعي في العراق ـ ليبيا ـ السويد ـ الدنمارك
- سيكولوجي في السويد
- العمل مع مركز الدراسات وسط السويد (اخصائي نفسي اجتماعي),
الشهادات العلمية:
- دكتوراه علم النفس والارشاد النفسي.
- ماجستير علم النفس والارشاد
- ليسانس علم النفس ـ كلية الآداب – جامعة عين شمس بالقاهرة ـ مصر
الكتب العلمية المتخصصة المنشورة:
- السلوك الجمعي
- سيكولوجية الشخصية
- علم نفس الشواذ
- سيكولوجية الفروق الفردية (علم النفس الفارقي),
- مشكلات نفسية ـ اجتماعية معاصرة (الدنمارك 2007),.
- العديد من المقالات العلمية المتخصصة في علم النفس والاجتماع. منشورة في المواقع الإلكترونية والصحف والمجلات العربية.