ألقيتُ نظرةً على الكتبِ المصفوفةِ فوقَ الرفِّ وأحسستُ بالأسى لعدم تمكنّي من زيارة أوراقِها منذ فترةٍ طويلة. كانت أغلفتها الكبيرة واللّوحات المرسومة عليها تناديني بين فينةٍ وأخرى، معلنةً في الوقت نفسه عِتاباً مباشراً لإهمالي هذا. وفوراً، غمرني إحساس كبيرً بالذنب وملأُ قلبي، بلْ ودفعني لجرِّ حسرة.
لقد بدَت باقي المجلات والكتيّبات والملاحق مهملةً أيضا، وفكري منشغلٌ بتحميل وتنزيل الملفات والمواضيع والنصوص إلكترونيا، وبهذا يكون الجهاز النقّال الذكيّ، أكثر الأجهزة زيارةً واستخداماً في الآونة الأخيرة حيث برامج التصفح مثل (اوبرا) و(جوجل) قد سجلت نقاطاً عالية للبحث ولاستكشاف إصدارات المجلات وحتى الصحف والكتب الجديدة وخاصة الرقميّة منها والمواقع الإلكترونية التي تتبنّى نشرها.
وما كان يدفعني أكثر لاستخدامه كمتصفّح، هو رؤية ولدي وابنتي والأغلبيّة من الصغار والشباب يطالعون فيه ويجيدون استخدامه ويتابعون هواياتهم، ذلك الجيل الجديد الذي يُسمّى جيل المعلومات، ليشكّل استفزازاً حقيقيّاً وتشجيعاً مباشراً للغوص فيه اكثر وهضم كل صغيرة وكبيرة منه، حتى داخل المقهى ومحلات التسوّق لاكتشاف تلك الموسوعة الكتابية المتنقّلة لقراءة كل شيء، ومتى ما شئت.
سالتُ نفسي: ما الذي جرى؟ لمَ أفقدني الجهازُ الذكي وسهولة مطالعة الكتب الرقميّة جاذبيّة الورقيّةِ منها؟ ما الذي حلَّ بهيبةِ ثقل الكتاب الورقيّ وقوة مسكه ولمسه، لتحلَّ محله أسطر رقميّة تبرقُ من خلال جهاز صغير؟ كيف حلّت لمسات شاشات الأجهزة والنقرْ محل قلب الصفحات ورائحة الورق والطباعة دونما ندمْ؟ وما الذي حلّ بتلك اللحظات الحميمة المصاحبة للمس الكتاب؟
بدأت شركة أمازون بتوزيع الكتب الرقميّة غير مجانية عبر الإنترنت عام 1998. ثم دخلت الميدان شركتا جوجل وآبل، ولحقتهما شركات أخرى. ومنذ ذلك الوقت، ودور النشر تصارع ذلك الاجتياح الرقميّ الذي أثّر على مبيعاتها وسيرِ صناعتها، ناهيك عن سهولة النشر إلكترونياً وقلّة التكاليف مقارنةً بالورقيّة، وكذلك الجنيِ المبكر للعوائد والأرباح.
وعلى الرغم من سهولة القراءة الإلكترونية التي أجدً فيها متعة التقدم التكنولوجي والحمل الخفيف لأجهزة القراءة وركنها جانباً أينما ذهبت، مع استخدامات الجهاز الذكي الأخرى، إلا أن متعة القراءة للكتاب الورقي لها طعمها الخاص. الكتب الرقميّة تجتاح الورقيّة بذكاء، ولكن الكتاب الحقيقي، برأيي، ما زال يقف بهيبةِ القديم العصريّ في آن واحد.
وعبرَ استطلاع قمتُ به في مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بي، والذي حوى أسئلة عن مدى التأييد من عدمه للكتاب الرقميّ، كانت ردود الأقارب والأصدقاء غير متحمسة للكتاب الإلكتروني من حيث المتعة، وتفضيل الكتاب الورقي: الأصل. وقد وجد الباحثون فائدة في الكتاب الرقمي اكثر من حيث استخراج المعلومات والاقتباسات.
أما الذين يعيشون في المناطق النائية والذين لا تتوفر لديهم خدمة إنترنت بالمرة أو بشكل دائم، فكان تأييدهم للكتاب الورقي أكثر لسهولة إيجاده بالنسبة لهم، قياسا بالرقمي الذي لا يمكن قراءته دون إنترنت، ذاكرين في الوقت نفسه متعة اللّمس وحمل الكتاب.
وبالنسبة للردود التي استلمتها من المقيمين في الدول الغربيّة، فكانت تناصر الكتاب الرقمي، وخاصة المؤلفين والكتّاب الذين توجهوا نحو إصدارات إلكترونية، ذاكرين أن سهولة النشر عبر الإنترنت والأرباح التي يمكن جنيها منه أفضل من الكتاب الورقي، وأنّ النشر الورقي باتَ صناعة قديمة ولا توفر لقمة العيش.
ومنذ بدء استخدام الحواسب في كل مجالات الحياة، أصبحت الكتب الورقيّة تطبع وتحفظ على حاسوب، فلا تتعرض النسخة إلى التلف الذي من الممكن أن تتعرض له النسخة الورقية، وهو أمرٌ عمليّ ومُنظّم. ولكن هذه الخطة لا تجعل الكتاب رقميا، بل خطوة من خطوات إنتاج كتاب ورقي، لا تزال دور النشر تحرص عليه لكي لا تفقد صناعتها، وبالتالي دخلها وأرباحها.
ربّما لن يستطع أيّ من دور النشر لوم الكتّاب إن نشروا رقمياً، فمن حقّهم فعل ذلك، ومواكبة التكنولوجيا والتطوّر. ولكن وفي الوقت نفسه، من حقّ الكتاب الورقيّ المحافظة على أصالته وقوّته وهيبته التاريخيّة. ذلك الكتاب الذي احتضنَ آلامنا ووحدتنا، وشعورنا بالغربة حتى داخل أوطاننا.
ويمكن المساهمة في المحافظة على بقاء الكتاب الورقي من خلال توجيه الأبناء والبنات إلى الكتب والقصص الورقية، والمكتبات التي تحتويها، قبل الإسراعِ إلى شراء الجهاز الذكيّ لهم لاستخدامه في مطالعة الكتب والقصص الإلكترونية وحتى الكتب المدرسيّة
بكالوريوس ترجمة – الجامعة المستنصرية – بغداد، العراق 1991
لها كتابات في العديد من المواقع الثقافية منها: مجلة عود الند الالكترونية، مركز النور الثقافي، كتابات، البابلية، وغيرها.